... وهل نجح الإعلام الساخر حيث لم ينجح الإعلام الجاد؟

لا... لهذه الأسباب لن يكون الإعلام الساخر بديلا للإعلام الجاد

TT

تزايد في الآونة الأخيرة عدد البرامج الساخرة التي اعتبرها البعض لونا من الألوان الإعلامية. وتولت هذه البرامج مناقشة القضايا الواقعية التي تشغل الرأي العام، مما خلق لها جمهورا واسعا من المشاهدين كمخرج عن حالة الإحباط واليأس التي أصابت الكثيرين جراء الظروف والأوضاع الملتبسة التي تعيشها المجتمعات العربية في تلك الآونة، نظرا لما تقوم عليه فكرة هذه البرامج من مزج السخرية بالفكاهة والنكات بشأن القضايا محل النقاش.

وفي خضم هذا التزايد برز بشأنها ردود فعل متعارضة بين من يمتدح ومن ينتقد أو من يشاهد دون أن يكون له موقف محدد. والحقيقة، أنه رغم أن مثل هذه البرامج بما فيها من نقد قد يكون بعضه صوابا، فإنها تشتمل على مضحكات من استهزاء أو تقليد ومحاكاة، بل ربما تتضمن إيحاءات تتعارض مع قيم المجتمع وعاداته.

ومن هذا المنطلق، وحسما لهذا الخلاف والتباين، نسجل ملاحظتين بشأن هذا النوع من الفن وليس الإعلام، هما:

أولا: من الصعوبة بمكان اعتبار هذا النمط أو اللون إعلاما. صحيح أن الحضارات القديمة والحديثة والمعاصرة تشهد ألوانا مختلفة من الفنون، من بينها فن الكوميديا بكل صورها. ولكن، ثمة أهمية للتمييز بين «النقد» و«السخرية»، وهو ما نفتقده فيما يطلق عليه البعض «الإعلام الساخر» الذي اشتق اسمه أو صفته من فعل السخرية؛ إذ من الأولى أن يطلق عليه «الإعلام النقدي» إذا كان بالفعل يستهدف النقد البناء، فثمة بون شاسع بين النقد من أجل التجريح والهدم والنقد من أجل النصح والبناء وتصحيح الأخطاء، وهو ما يتوافر في الإعلام الجاد الذي ينقد الواقع وقضاياه ويطرح معالجات حقيقية لمشكلاته.

ثانيا: ارتباطا بما سبق، يظل الحكم على هذا النوع مهما في ميزان قيم المجتمع ومرجعيته، فإذا كان الأمر مقبولا في المجتمعات الغربية، فإنه يختلف في المجتمعات ذات المرجعية الإسلامية بما تقوم عليه من مبادئ وقيم ضابطة للسلوك، علما بأن النقد من ضروريات بناء المجتمع الإسلامي كما عبرت عنه الشريعة الإسلامية بمفهوم «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».

في ضوء هاتين الملاحظتين، نصبح إزاء أوضاع تستوجب التصحيح من دون إضاعة الوقت في مناقشات عقيمة لن تصل بنا إلى طريق صحيح لبناء مجتمعاتنا التي أضاعت الكثير من الفرص دون اغتنامها. وبدلا من الحديث عما يطلق عليه «الإعلام الساخر» وحاجة المجتمعات إليه في ظل سطوة النظام الحاكم وديكتاتوريته، تصبح مناقشة دور الإعلام الجاد في تصحيح المسارات الخاطئة وتوجيه دفة الإدارة لتنمية المجتمعات وحل مشكلاتها لها ذات الأولوية في تلك المرحلة.

ولا شك أن غياب الفوارق والحدود بين رؤية السلطة الحاكمة للحرية الإعلامية، التي تحاول أن تفرض عليها مزيدا من القيود نتيجة لعدم استيعاب هذه السلطات حجم التغيرات في مجال التعبير والرأي الذي أتاحه عصر الفضائيات المفتوحة - وهو الذي حد كثيرا من سيطرة الدولة على توجيه الإعلام واحتكار وسائله - من ناحية، وبين إعلام حر يحاول أن يتخلص من تلك القيود معتمدا في الممارسة على إعمال نظرية «الحرية الإعلامية» المتجاوزة لأي ضوابط... هذا الغياب أحدث حالة من الانفلات وعدم مراعاة القواعد المهنية والمسؤولية المجتمعية من ناحية أخرى.

هذا هو لب القضية وجوهرها في كيفية البحث عن تحقيق التوازن بين الحرية والمسؤولية، وهو ما يلقي بالعبء على طرفي المعادلة. فعلى السلطة الحاكمة أن تدرك تغير العالم وأدواته ووسائله وما يتطلبه ذلك من صياغة تشريعات تتواءم وبداية مرحلة جديدة من الحرية والمشاركة السياسية والمجتمعية، وخاصة القوانين والتشريعات المقيدة لحرية الإعلام، هذا من جانب. على الجانب الآخر، على الإعلاميين أن يدركوا أن ثمة ضوابط لحرية الإعلام، منها ضوابط قانونية وأخرى مجتمعية وثالثة دينية ورابعة ذاتية، وكلها تتعلق بالنظام والمصلحة العامة والأخلاق، وهو ما يعني أن المسؤولية القانونية والمجتمعية والأخلاقية لا تمنح الإعلامي الحق المطلق في قول ما يشاء وقتما يشاء وبأي ألفاظ وتعابير، وإنما التقيد بمعايير المهنة والالتزامات الذاتية تجاه المجتمع.

* الوكيل السابق للجنة الإعلام والثقافة بمجلس الشورى المصري