هل تكفي التدابير الأمنية وحدها حاليا لضبط الوضع الأمني اللبناني بمعزل عن الوفاق السياسي؟

لا... أولى وسائل منع الإرهاب هي تخفيف الاحتقان السياسي ومنع التعبئة التحريضية

TT

أمسى الإرهاب حالة شبه يومية في كثير من الدول وتحديدا في بعض دول الشرق الأوسط، من العراق إلى سوريا فلبنان، ثم إلى مصر وليبيا، واستطرادا إلى باكستان وأفغانستان. ويخطئ من يعتقد أنه بمنأى عن الإرهاب السياسي مهما طال الانتظار، و11 سبتمبر (أيلول) وما تبع خير دليل. ونحن من الذين قالوا وكتبوا أن التصدي للإرهاب يقتضي أولا معالجة أسبابه والتصدي له في مصدره ونقطة انطلاقه، قبل انتظاره على أبواب أهدافه.

للإرهاب وجه سياسي، ووجه أمني. ولا يمكن للإجراءات الأمنية مهما بلغت دقتها وكفاءتها أن تقضي على الإرهاب، بل يمكنها في أفضل الأحوال التخفيف من نتائجه. والإرهاب كالزرع لا يمكنه النمو، والتصاعد والتكاثر، إلا في أرض خصبة. والأرض الخصبة يؤمنها الصراع السياسي والخلاف المذهبي، ويسقيها التحريض الإعلامي والخطاب السياسي. ولا يمكن للمجموعات الإرهابية أن تعمل بحرية مضمونة النتائج، من دون الاعتماد على بيئة حاضنة، ومساعدة لوجيستية، واستخبارتية، وتمويل مادي. لذا نجد الكثير من الدول تتورط في مساندة المجموعات الإرهابية بشكل أو بآخر وتحاربها في مكان وتدعمها سرا في أمكنة أخرى.

أما الوجه الأمني للإرهاب، أو التصدي له أمنيا، فيقتضي أولا تحديد أشكاله ووسائله. ومعرفة قاعدة انطلاقه، ومصادر تمويله، بعد التصدي له في نقطة وصوله.

إن تعاون أجهزة الاستخبارات اليومي وعلى مدار الساعة من خلال غرفة عمليات مشتركة تعمل على تقاطع المعلومات المستندة إلى كل وسائل الاستعلام، واعترافات الجناة، وإفادات الشهود، و«داتا» الاتصالات، إلخ، يؤمن تحقيق الهدف الأول بنسبة مرتفعة. وقد تبين أن أكثر وسائل الإرهاب شيوعا في الوقت الحاضر هي السيارات المفخخة، والعبوات الناسفة. وتبين مؤخرا في لبنان ومن خلال العمليات الإرهابية الكبرى الثلاث وخلال شهرين، من بئر العبد إلى طرابلس مرورا بمتفجرة الرويس، أن الأدوات فيها كانت سيارات مفخخة.

والسيارات المفخخة لها ثلاث وسائل للتفجير:

* الأولى ساعة توقيت، وهذه يضعها الجاني في أي مكان في البقعة المختارة ويغادرها لتنفجر بعد فترة تتيح للإرهابي الابتعاد عنها. وهذه هدفها الناس بشكل عام وقتل أكبر عدد من الضحايا بهدف تحقيق أهداف سياسية، أولها ضرب الاستقرار، وخلق الفتنة، وتأليب الرأي العام.

* والثانية تعمل بجهاز إرسال «ريموت كنترول»، وهذه تستهدف موكبا معينا أو شخصية ما ينتظر مرورها. وتحسب الثواني وبكثير من الدقة لعدم حدوث خطأ في الإصابة.

* والثالثة وهي الأخطر، هي التي يقودها انتحاري. وهي حالة شائعة في العراق ونادرة جدا في لبنان، أبرزها تفجير مقري المارينز والفرنسيين (دراكار) عام 1983.

بالإضافة إلى ما ذكرنا عن قطع طريق الإرهاب منذ البداية أو ملاقاته في منتصف الطريق، تلعب الوسائل التقنية والإجراءات العسكرية دورا مهما، إنما ليس حاسما في التخفيف بنسبة معينة. وأهمها الـ«Scanner» في بوابات إلكترونية، وهذه ليست من السهولة بمكان، إذ إنه تبين في دراسة موجزة أن الضاحية الجنوبية لبيروت تستلزم مراقبة 40 مدخلا. أما آلات المسح المعتمدة حاليا فقد أثبتت عدم جدواها حاليا لأنها بكل بساطة تكشف غبار المواد إذا وجدت «Vapeurnitré» أو «Vapeurnitrate» لبعض مواد البارود، والديناميت، أما المواد المتفجرة من نوع «نيتروغليسرين» و«بلاستيك» و«C4» فمن الصعب كشفها بهذه الآلات غير المتطورة. والكلاب البوليسية هي الأجدى، إلا إذا وضعت المواد المتفجرة في عبوات محكمة الإقفال تمنع تسرب الرائحة. ويبقى التفتيش اليدوي الذي يتطلب جهدا ووقتا طويلا، وربما تفكيك السيارة المشبوهة بما فيها خزان الوقود، وهذا ما حصل مرة في تجربتنا العسكرية في الجيش اللبناني.

لذا نحن نرى أن أولى وسائل منع الإرهاب هي تخفيف الاحتقان السياسي ومنع التعبئة التحريضية إعلاميا وخطابيا، ثم توعية المواطنين وهيئات المجتمع المدني. في كل الأحياء، والاستعانة بكل القوى الرسمية بما فيها الشرطة البلدية، ورفع شعار «كل مواطن خفير» حيث يعمل الجميع على مراقبة كل تحرك مشبوه، أو مجموعة غريبة، والتنسيق مع غرفة العمليات المركزية للإفادة بالاتصال المباشر والفوري بالوسائل المتاحة.

إن كل ما ورد أعلاه إذا جرى تحقيقه فإنه سيخفف إلى حد بعيد من العمليات الإرهابية، إلا أنه لا يقضي عليها نهائيا ولا يقطع دابرها. فالإرهاب منظم ومصرّ وقادر ومموّل ومبرمج، ولا يمكن فصله عن الأحداث الجارية في المنطقة بأسرها، والقوى المتصارعة على أراضيها، بما فيها الاستخبارات العالمية وفروعها وعملاؤها.. إلا عندما تتحقق لبلدنا لبنان أو يحقق اللبنانيون سلطة وشعبا الأمور البديهية التالية:

* النأي بالنفس عما يجري في الجوار وسوريا تحديدا حقيقة وليس شعارا.

* الوفاق السياسي على الأقل على مبدأ تحييد لبنان عن الصراع الدامي في مؤتمر وطني يدعو إليه رئيس الدولة، ويقرر فيه اللبنانيون إذا ما كانوا يريدون نقل الفتنة إلى بلدهم أم لا.

* اليقظة التامة من قبل السلطة والشعب والتعاون في ما بينهما.

* التحرك الدبلوماسي لوقف مصادر الدعم والتمويل للإرهاب المقيت واتخاذ مواقف رسمية معلنة.

* التضييق على البيئة الحاضنة وعزلها.

ساعتئذ يمكن القول إن الإجراءات الأمنية والوسائل التقنية أصبحت مجدية. ويصبح لبنان ساعتئذ مثلا يقتدى. وعندما تؤمن الوقاية فلا ضرورة للعلاج.

* عميد ركن متقاعد ورئيس مركز الشرق الأوسط للدراسات والأبحاث السياسية