هل تتوقع سماح حزب الله للدولة بأن تمارس واجباتها في مناطق نفوذه؟

لا... خضوع حزب الله لمنطق الدولة هو من عالم الخيال

TT

من نافل القول إن وضع الدولة اللبنانية لا يمكن تقييمه على أساس أنها دولة كاملة المعالم. فلا يكفي الوجود الإداري النظري والاعتراف الدولي بالحدود والسيادة لتكوين دولة، فأهم معالم الدولة هو السلطة القابضة على حق استعمال العنف على كامل مساحتها السيادية. لذلك فإن العالم والدول العربية وحتى اللبنانيين أنفسهم يتعايشون مع أمر واقع هو وجود الميليشيات المسلحة ومن ضمنها حزب الله، ويأملون في أن يكون ذلك وضعا مؤقتا، وإن كان تاريخ نهايته في علم الغيب.

جملة من الوقائع التاريخية والمذهبية والعقائدية جعلت الطائفة الشيعية في لبنان تبحث عن قيادة نابعة من العمق الاجتماعي والديني والأسطوري للتشيع، بعد أن فشلت الرهانات اليسارية والعلمانية والقومية في انتشال الاجتماع الشيعي من الإهمال والتهميش الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والتعرض المتكرر للاعتداءات الإسرائيلية في الجنوب.

أتت حركة الإمام موسى الصدر لتعطي بدائل منطقية للشيعة في لبنان لكونها نابعة من التقليد المتوارث والمجبول بالعادات المنسوبة إلى التشيع كبديل عن التعقيدات الفلسفية ذات الطابع العلماني. وتمكنت حركته من إنتاج تغييرات كبيرة على الوجود الشيعي من أهمها إنشاء مرجعية دينية اجتماعية مستقلة عن المرجعيات السنية.

أتى إنشاء حركة أمل في أوائل السبعينات وعلى يد الإمام الصدر نفسه كمقدمة لاختبار القوة المسلحة في تأمين الوجود المعنوي في ظل الخلل الكبير لمصلحة الطوائف الأخرى على المستويات الاقتصادية والعلمية والقدرات الفردية.

لا شك أن انتصار الثورة الخمينية سنة 1979، وتشابك مرجعياتها العقائدية والفقهية والسياسية والاجتماعية مع شيعة لبنان مرورا بالعراق، أدى بعد صدمة الاجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982 والتغييرات الحادة في موازين القوى العسكرية إلى فراغ كبير في الساحة العسكرية والسياسية والاجتماعية والفقهية، تمكنت منظومة ولاية الفقيه من احتلاله عبر جهود مركزة وصبر وتضحيات كبرى وكميات هائلة من الأموال الإيرانية، ومعها خاضت هذه المنظومة صراعات مريرة ودموية على الساحة الشيعية في لبنان مع القوى اليسارية التي سبقتها في الوجود هناك، لكن الأهم كان الصراع مع حركة أمل التي يرأسها نبيه بري، وكان هذا الصراع بمثابة تنافس بين مشروع ولاية الفقيه ومشروع حافظ الأسد لابتلاع لبنان.

يعني هذا أن كما هائلا من التضحيات والكلفة المادية أوصل حزب الله إلى واقع أصبح يطمح من خلاله إلى جعل لبنان ولاية تابعة عسكريا وسياسيا لإيران.

هذه المقدمة الطويلة أتت في سياق الإجابة عن سؤال محدد وهو: هل سيسمح حزب الله للدولة بممارسة سيادتها على ضوء تفجيرات الضاحية الجنوبية؟ الواقع هو أن الدولة اللبنانية مسموح لها فقط بما يفيد مشروع حزب الله، وهو أصلا لا يعترف بالدولة اللبنانية الحالية ولا بسيادتها فيما عدا الإفادة من مواردها.

لذلك فإن ثقة الحزب هي محصورة في أجهزته وقاعدته المذهبية والأهم العقائدية، وهي التي تشكل بالنسبة له الوقاية الوحيدة الموثوقة إلى أقصى الإمكان، وإن كانت خروقات واضحة قد أصابتها في بعض الأحيان، أما الدولة فيعتبرها مخترقة أصلا بالطوائف والخيارات السياسية الأخرى. لا شك أن خرق أمن الضاحية الجنوبية يعده حزب الله انتكاسة واضحة قد تؤدي إلى دفع جمهوره للتساؤل والمساءلة، لكن هذه الانتكاسة محسوبة من ضمن الخسائر الجهادية التي يمكنه تحملها والتعويض عن تداعياتها، فقد تقبل جمهوره خسائر أفدح بكثير في السابق كما حدث في حرب تموز/ يوليو 2006 أو في أعداد القتلى الذي سقطوا في سوريا حتى الآن، لأن هذا الجمهور يعدّ أن الحزب يدافع عن وجود الطائفة وعن قيمتها المعنوية في المستقبل.

قد يسمح حزب الله ببعض الوجود الأمني الرمزي للدولة في مناطقه الأمنية، لكن القبضة الأمنية ستبقى بيده إلى أن تتغير معادلة وجوده، ولم يتورع هذا الحزب عن توسيع وجوده الأمني تحت عنوان حماية مناطقه حسبما ظهر في الأسابيع الماضية.

إن خضوع حزب الله لمنطق الدولة هو من عالم الخيال، لأن ذلك يعني نهاية وجود الحزب. فحزب الله أنشئ على مبدأ مد سلطة الولي الفقيه على أكبر مساحة ممكنة لأهداف أسطورية تتعلق بمقولة عودة المهدي. وهذه القناعة أصبحت راسخة في العقيدة المحركة لقيادات وأفراد الحزب، وما مناورات الانخراط في الدولة والمؤسسات التشريعية والتنفيذية والأمنية إلا ممارسة للتقية في سبيل التغلغل في مواقع القرار والاستفادة من مقدرات المجتمع اللبناني، ومن الضرائب التي يدفعها الآخرون في انتظار حلول الفرصة المناسبة لإعلان لبنان ولاية إيرانية.

اليوم يرزح هذا الحزب تحت تحد وجودي خطير، لأن أي تغيير أو تسوية على واقع السلطة في سوريا، التي تحولت بعد الخروج من لبنان إلى تابعة بنسبة كبرى لقرار ولاية الفقيه، سيفقد الحزب تواصله الجغرافي الأرضي الضروري لاستمراريته، وسيفقد المدى اللوجيستي الذي تمتع به على مدى ثلاثة عقود ليحمي ظهره ويؤمن تواصله مع القيادة في إيران.

لذلك فإن الحزب قادر على تحمل المئات من التفجيرات والآلاف من الضحايا وما لا يوصف من دمار، ولن يتراجع عن الانخراط في الدفاع عن بقايا بشار الأسد إلى أن تحسم الأمور العسكرية والسياسية بشكل واضح وحاسم.

* نائب سابق وقيادي في تيار المستقبل