أ يشكل هذا التباعد انتصارا إقليميا جديدا لإيران؟

نعم ... في الجانب الاقتصادي على وجه الخصوص.. وأيضا بالنسبة لـ«حماس»

TT

على الرغم من تنوعات الشرق الأوسط المذهبية والإثنية واللغوية، فضلا عن المتغيرات الآيديولوجية، فإنه لا يعدم ثوابت تحدد مسارات تفاعل الحراك السياسي داخله. صحيح أن بعض هذه الثوابت ليست مستندة إلى أسس منطقية بقدر ما هي ثوابت اعتيادية، إلا أن البعض الآخر يُعد ثابتا أبديا. وأول هذه الثوابت طبيعة العلاقة بين القوى الثلاث الكبرى في الشرق الأوسط وهي مصر وتركيا وإيران، ويقف على التوازي مع هذه العلاقة مدى تفاعل كتلة الخليج مع المعادلة المصاغة بين الأقطاب الثلاثة.

على مدار التاريخ شكلت طبيعة العلاقة بين مصر وتركيا محددا رئيسا من محددات قوة إيران في منطقة الشرق الأوسط، وأصبح في حكم القاعدة أن كل تقارب يحدث بين قطبين من الأقطاب الثلاثة يحسم بالضرورة من قوة ونفوذ الطرف الثالث، وكل تباعد يحدث بين قطبين يكاد يضيف إلى قوة الطرف الثالث.

مع ظهور المتغير الإخواني في منطقة الشرق الأوسط، وأعني به حزب العدالة والتنمية في تركيا، وعام حكم «الإخوان» في مصر، اتبع حزب العدالة والتنمية نظرية «صفر مشكلات دولية» التي وضعها منظر السياسة الخارجية في الحزب أحمد داود أوغلو، وأتت تلك السياسة ثمارها في السنوات الأولى من حكم حزب العدالة والتنمية. وحاول «الإخوان» في مصر صياغة سياسة خارجية مختلفة فيما يتعلق بالتعامل مع إيران. لكن يبدو أن الأمر اصطدم بالثوابت الاعتيادية في منطقة الشرق الأوسط، فكتلة الخليج والقوى الدولية لم تتقبل تقاربا مصريا إيرانيا بسهولة، فضلا عن أن الأساس الذي بُني عليه التقارب كان هشا إلى حد بعيد، وهو الاتفاق على رفض التدخل العسكري في سوريا، على الرغم من تعارض موقف الطرفين من النزاع.

لم يكن «الإخوان» في مصر على وعي بالثوابت الاستراتيجية في الشرق الأوسط، سواء كانت منطقية أو اعتيادية. وبالتالي، اختلت المعادلة، وانعزلت مصر عن الكتلة الخليجية على الرغم من تقاربها مع تركيا وجسورها الهشة مع إيران. ومع انهيار حكم «الإخوان» في مصر، ابتعدت تركيا عن جوهر استراتيجية سياستها الخارجية، ودخلت في خصومة مباشرة مع مصر. وعلى الرغم من أن إيران شاركتها موقفها في الأيام الأولى، فإنها سرعان ما عدَلت عنه بعد مراجعة.. ورأت في «الإخوان» حلفاء لتيار يعاديها عداء آيديولوجيا، وهو التيار السلفي. وعلى الرغم من اتفاق وزيري خارجية كل من تركيا وإيران على إدانة الأوضاع في مصر، تراجعت إيران، بل وصرحت بأن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يعاني من عقدة نفسية في التعامل مع المتغيرات المصرية.. ومن الأفضل أن يراجع موقفه حفاظا على مصالح بلاده.

ربما كان هذا القول من جانب إيران بمثابة النصيحة الصادقة من منافس، التي نادرا ما تقال، لكن أردوغان لم يكن مدفوعا في موقفه هذا بتأييده لـ«الإخوان» في المقام الأول بقدر الخوف من حدوث انقلابات عسكرية ضده، فهو في المقام الأول يدافع عن وجوده هو، وليس «الإخوان» في مصر.

على الجانب الآخر، رأت إيران أن التنافر المصري - التركي فيه إضعاف للجبهة المعادية لنظام بشار الأسد، وربما يؤدي إلى تقليص العلاقات التركية – الخليجية، الأمر الذي يتيح بالضرورة مساحة أكبر للنشاط الاقتصادي الإيراني في المنطقة من ناحية، ويعمق التعاون الاقتصادي مع تركيا نفسها بتقليص حجم سوقها في منطقة الشرق الأوسط. وكذلك يجعل حركة حماس أكثر التصاقا بإيران، إذ لم يعد بمقدور تركيا الوصول إليها عبر الأراضي المصرية.

وبالنسبة للسؤال حول التوتر المذهبي، أقول إنه عادة في منطقة الشرق الأوسط لا يحدث التوتر المذهبي بين الأقطاب الرئيسة في المنطقة بشكل مباشر، وإنما يأخذ شكل الضغط أو الاضطهاد داخل الدولة الواحدة، أو الاعتداءات المتبادلة بين كيانات صغرى بدعم وتأييد من الكيانات الكبرى. وبالتالي، مع التنافر الحادث بين تركيا ومصر كقطبين سنيين سيحرص القطب الشيعي على تحاشي تأجيج الصراع المذهبي لتعظيم استفادته من هذا التباعد، والتقرب إلى الكتلة الخليجية وتقديم نفسه بديلا اقتصاديا تجاريا إلى حد ما، عوضا عن تركيا، وبالتالي سيكون من نتائج التنافر التركي المصري التخفيف من حدة التوتر المذهبي من خلال تحاشي إيران هذا الأمر.

من المتوقع إذا ما كان موقف أردوغان مبنيا على أساس التخوف من حدوث انقلاب عسكري ضده أن يعدل موقفه بعد إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في مصر، بغض النظر عن الفصيل الفائز في الانتخابات، لكن من المتوقع أيضا أن يظهر بعض التحفظ في حالة حل حزب الحرية والعدالة، وإن كان لن يستطيع مواصلة موقفه نفسه، إذا ما حل على أساس منع تأسيس الأحزاب على أساس ديني، لأن هذا المبدأ موجود في تركيا أيضا، وبالتالي يزول سبب التنافر بين مصر وتركيا، ويعود الشرق الأوسط لثوابته بعيدا عن متغيرات «الإخوان»، على الأقل في الشق الخاص بعلاقة تركيا بمصر.

* باحث وخبير مصري في الشؤون الإيرانية