هل غدا العنف الأسَري، ولا سيما ضد المرأة، في دول المنطقة ظاهرة خطرة.. أم ثمّة مبالغة في إثارتها؟

نعم ... إصدار نظام الحماية من الإيذاء دليلٌ على إقرار السعودية بخطورة الظاهرة

TT

العنف الأسري ظاهرة اجتماعية يُعاني منها المجتمع الخليجي كغيره من المجتمعات، ولعلّ إصدار نظام الحماية من الإيذاء من مجلس الوزراء السعودي دليلٌ على إقرار الدولة بأنّ العنف الأسري قد بات ظاهرة خطيرة في السعودية لا بد من التصدّي لها.

والمؤسف ممارسة العنف بشتى أنواعه ضد المرأة والطفل باسم الإسلام بنسبة إليه ما ليس فيه، فرغم أنّ الإسلام منح المرأة الأهلية الكاملة كالرجل كتحملهما معًا أمانة الاستخلاف، ومساواتهما في العقوبات التي تسقط عن ناقصي الأهلية ومعدميها، فإنّ خطابنا الديني القائم على موروثات فكرية وثقافية متمثلة في عادات وأعراف وتقاليد جاهلية تَعاملَ معها على أنّها قاصر على الدوام إلا عند تطبيق العقوبات عليها، وأعطى للزوج حق التعامل معها كالأسير أو المملوك في حالة صحتها، فبحديث ضعيف أُعطي له حق منعها من زيارة أبيها المريض الذي ألزمها خالقها ببرّه، وألزمه الفقهاء بعلاجها في مرضها! بل أعفى البعض قاتل زوجته من القصاص لمقولة للإمام الزهري «لا يُقتل الرجل في امرأته لأنّه ملكها بعقد النكاح» ولكن في حال مرضها تصبح كالدار المستأجرة، لا يجب على زوجها علاجها، ولا شراء كفنها، فإصلاح الدّار المستأجرة على المالك، لا على المستأجر! والمالك هنا أبوها والمستأجر زوجها! هذا ما قرّره الفقهاء الأربعة دون الاستناد على نص، لعدم تمكنه من الاستمتاع بها، مع تنافي ذلك مع مقاصد الشريعة ومفهوم القوامة، ومع (وجعلنا بينكم مودة ورحمة) ومع «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» ومع حقه في ميراثها؛ إذ كيف يرثها ولا يُلزم بعلاجها وتكفينها؟

ولقد فُسّرت الآيات القرآنية المتعلقة بالمرأة وعلاقاتها الأسرية والزوجية بموجب تلك الموروثات، ودُعّمت بأحاديث ضعيفة وموضوعة ومفردة ومُنكرة، أخذ بها بعض الفقهاء في أحكامهم، ووافقهم بعض المحدّثين عليها باستحداثهم قاعدة «شهرة الحديث تغلب صحة إسناده»! فأُعطي لرجال الأسرة حق ممارسة العنف البدني ضد المرأة بتفسير (واضربوهن) بالضرب البدني، وليس ترك واعتزال بيت الزوجية عند نشوز الزوجة الذي يوضحه سياق الآية، وطبّقه الرسول (ص) عندما غضب من زوجاته؛ إذ هجر بيت الزوجية شهرا ثمّ خيرّهن بين الرضا بمعيشته، أو تطليقهن، كما جاء في الأحزاب آيتي (28 و29) ولم يضربهن لتنافيه مع العشرة بالمعروف (وعاشروهن بالمعروف).

كما أعطى الخطاب الديني للقوامة معنى الاستعباد والاسترقاق لمن هو قوّام عليهم، وليس خدمتهم وتوفير سبل الرعاية لهم، كما جاء في لسان العرب؛ إذ فسّرها ابن كثير بقوله: «هو رئيسها وكبيرها، والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجّت». ولدعم هذا المعنى أُتي بأحاديث موضوعة وضعيفة ومُنكرة تُقدِّس الزوج، فرضاه يُدخلها الجنة، ومجرد قولها له: «ما رأيت خيرا منك قط» يدخلها النار! وإن كان للرسول أن يأمر أحدًا السجود لأحد لأمر المرأة أن تسجد لزوجها، وإن سال من منخاره دم أو قيح أو صديد ولحسته ما وفته حقه لما فضّله الله عليها، وهذا يتناقض مع (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم) ومع (ولهنّ مثل الذي عليهن بالمعروف).

ونجح هذا الخطاب في استصدار أنظمة وقوانين وأحكام قضائية في السعودية تجعل وصاية الرجل على المرأة أبدية، كاشتراط موافقة ولي أمرها على تعليمها وعملها وسفرها، واستصدار أوراقها الثبوتية أو تجديدها حتى لو كان ابنها الذي تُنفق عليه، وتزويجها طفلة، أو حرمانها من الزواج، وهي بالغة رشيدة، بل اعتبارها عاقّة لوالدها في بعض الأحكام القضائية لرفعها ضده قضية عضل! وبالاستناد على أحاديث ضعيفة وموضوعة يتم تطليقها من أب أطفالها دون رضاها، بحكم قضائي لطلب أحد إخوتها أو أبناء عمومتها تطليقها بدعوى عدم الكفاءة في النسب، مع أنّ زواجها تم بموافقة والدها. وقد يستولي وليها على ميراثها أو راتبها بحكم فرض الولي، أو الوكيل عليها، أو اشتراط المُعرفيْن لها في المحاكم التي لا تعتمد بطاقة أحوالها، فقد يأتي رجل إلى كتابة عدل بامرأة غير أخته أو زوجته، وبمعرّفيْن يشهدان بأنّها هي أخته أو زوجته لتوكله توكيلا عاما بالبيع والشراء، ويستولي بذلك على أموالها، كما نجد بُنوكنا تسمح بالحساب المشترك للزوجين، وبإيداع الموظفة راتبها في حساب زوجها، مع أنّ الإسلام أعطاها ذمة مالية مستقلة، كما غضّ علماء الدين الطرف عن حرمانها من حقها الشرعي في الميراث لأعراف قبلية جاهلية في بعض مناطق المملكة. ونجد أحكامًا قضائية تحرم الأم المطلقة إن تزوّجت من حضانة طفلها الرضيع لحديث ضعيف «أنت أحق به ما لم تُنكحي»، وتُعفي قاتل زوجته من القصاص لأنّ له ولدا منها! كما تعفي الأب القاتل لولده من القصاص لحديث ضعيف «لا يقتل الوالد بولده» وتركها الآيات القرآنية التي تُحرِّم على الآباء قتل أولادهم! إن نظام الحماية من الإيذاء لن يُحقق أهدافه، والعنف الأسري لن يُقضى عليه من جذوره ما لم يُصحّح الخطاب الديني، وتُلغى جميع الأحكام الفقهية والقضائية والأنظمة والقوانين التي بُنيت عليه، وهذه مسؤولية الدولة وعلماء الدين سيُسألون عنها يوم القيامة.

* أكاديمية سعودية، عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ونائبة رئيس اللجنة العلمية ورئيسة مركز المعلومات والإحصاء والتوثيق في الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان.