أيمكن القول إن الجهود الحكومية يجب أن تشكل رأس المعالجة؟

نعم ... يجب أن تنطلق المبادرات الفعلية من الحكومات ولا سيما القضاء

TT

مصطلح «ظاهرة» يفرض جذرية هيمنته في المنظومة المكوّنة لوعي المجتمعات. ولا شك أن الظواهر عامة نتاج مشترك من ثقافة ذهنية تأسيسيّة نرمز لها بـ«الموروث»، واشتغال على الواقع يمثل دور تشريعات وإجراءات ومعاملات وقوانين مؤسساتية يسهم في الانتشار والاستمرار. وما إن تبدأ الحكومات بالتصدي للظواهر السلبية بأمانة وحرص نزيهين إلا وتحسب حساب التغيير الذهني الذي يلزمنا بـ«حفر أركيولوجي في الأعماق»، كما يذكر المفكّر هاشم صالح، كخطوة ارتكازية تعتمد عليها بقية المشاريع الإنسانية، كالحد من العنف والإيذاء.

والمجتمعات لا يُنتظر هجرها بداءة العادات اللاإنسانية إلا بثقافة مناهضة تشكل وعيا عالي المستوى في نظمها التعليمية والتربوية ودساتيرها وتشريعاتها المؤسساتية للدفع بالمجتمع لمزيد أنسنة، على أن تكافح في هدفها الأسمى العنصرية المتشكلة في أصل التكوين «عنصرية الجنس» بين الرجل والمرأة، والذي يتولد عنه كل أنواع العنصريات. والواضح أن كل ظاهرة اجتماعية سلبية سبب استفحالها - غالبا - تأخر المعالجة الحكومية، إلا أن دور الحكومة وإن أتى متأخرا أفضل من ألا يأتي. والظواهر السيئة تتشكل عادة بفعل العادات البذيئة المسكوت عنها في ثقافة المجتمعات. وهي أيضا حصاد ممارسات حكومية بما نسبته يفوق 75 في المائة تقريبا من تكون الجو التوعوي العام المسؤول، فعدم وجود مؤسّسات لحماية ورعاية المعنفة «دور حكومي» وسكوت المعنفة عن العنف الموجه لها «دور ثقافي».. يسبب تمادي المعنِّف إنتاج «ظاهرة سيئة» وكل هذه المكوّنات للحكومات فيها نصيب الأسد.

وظاهرة العنف الأسري إن كان مسكوتا عنها في الماضي فاليوم يساهم في كشف حالاتها انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، التي باتت تشكل قوة ضغط مؤثرة على المؤسسات المعنية، وحقا ساهمت إلى جانب كشف الحالات بالانتقاد المصاحب للمعالجة..

والعنف بأنواعه (الرمزي والنفسي والجسدي) دائرة متصلة، نقطة التمكين لها جميعا في العنف الرمزي الذي تساهم الحكومات بشكل واضح في تمكينه، والذي يشكل اللبنة التأسيسية التي ينطوي عليها بقية أنواع العنف. ولذا فالقضاء على العنف في المجتمعات ينبغي أن يبدأ من نقطة الارتكاز هذه ضد «العنف الرمزي» الذي تساهم بعض حكومات الخليج فيه وتفرضه على المجتمع، كبعض الإجراءات المناهضة للعدل والمساواة بين المرأة والرجل، كالولاية على الراشدة وتقييد حريتها وحركتها، وغيرها من إجراءات تناقض في كثير من تمظهراتها «وثيقة حقوق الإنسان» و«وثيقة مناهضة كل أنواع التمييز ضد المرأة» (وثيقة «سيداو») التي وقعت عليها الدول الخليجية.

هذا العنف الرمزي الخطير يأتي في جرائم العنف والإيذاء كمقدمة تأسيسية ثم يندمج مع بقية الأنواع عندما يُمارس على الفئات المستهدفة (المرأة والطفل) بالذات. فإفراز العنف النفسي والجسدي بالضرب أو الاغتصاب أو التحرش الجنسي لا بد - غالبا - أن يسبقه عنف رمزي، إما بالسكوت عنه أو بدعمه على هيئة إجراءات انتقاصية تستضعف المرأة والطفل وتنتقص من كرامتهما وتعرض سلمهما الاجتماعي للخطر. وطبيعي أن أي فرد تستهدفه الحكومات بالانتقاص أو الدونية أو التبعية تجعله عرضة للإيذاء، وشريحة مستهدفة وجاهزة لتفريغ شحنات الإساءة اللفظية والمعنوية وأنواع التحرش والإيذاء الجسدي.

في السعودية صدر نظام جديد «نظام الحماية من الإيذاء» بعد لأي طويل، وهو نظام ما زال في بواكيره الأولى ويتعرّض لنقد يمس جوانب كثيرة من عدم دقة تعريف الإيذاء والإجراءات ويحمل تعويما معرفيا حول الجهات المسؤولة عن الحماية والرعاية كاسم «الجهة المختصة»، لكننا نأمل أن تصحّح بنوده وأن يُحدث تغييرا لائقا يحقق الحياة الآمنة للشرائح المتضررة من العنف والإيذاء.

أما مرتكز متطلبات الحماية من الإيذاء للمرأة فهو في إزالة كل إيذاء لها في التشريعات والدساتير الوطنية والإجراءات الحكومية والتعاملات اليومية في مؤسسات الدولة ومعاملتها بأهلية تامة وبمواطنة غير منقوصة، كالرجل تماما. إذ عندما تكون المرأة في الدساتير كائنا منقوص الأهلية والكفاءة فلن نتوقع نجاحا لأي قانون يحمي من الإيذاء. فمن يطالب بالحماية لا يصح أن يساهم بتغذية الاعتداء في تشريعاته ومؤسساته، أما إذا روعي فيه التوجه الحقيقي لدفع الظلم عن الشرائح المستهدفة بالإيذاء فسينمو وعي المجتمع وستبدأ قصص الإيذاء في التراجع عوضا عن النمو المتزايد الذي يشهده الواقع الحالي. ولكي نصل إلى المأمول المنتظر من قانون الحماية من الإيذاء والعنف، لا بد من توافر لاستراتيجيات العمل على توظيفه أبعادا مهمة تتضمّن: الوقاية والحماية والتدخل المبكّر وإعادة التأهيل ومعاقبة المسؤول.

إن وعي المجتمعات «الأنسنة» المناهضة للاعتداء والعنف والناشدة العدل والسلام ينمو على قدر المعالجات الوافية للحكومات الهادفة لتحقيق مزيد من التطور والترقي في مجال العلاقات الإنسانية. وديناميكية الوعي التطوري تمثله جهود الحكومات التنموية تجاه مؤسسات ذات علاقة وطيدة بأفراد المجتمع، كالمؤسسات التربوية والتعليمية والقضاء ومراكز التوعية القانونية والإعلام الحر النزيه، إضافة للجمعيات الخيرية ومراكز الإيواء المحترمة وغيرها من القنوات المساهمة في تغيير المجتمع وتنمية حسه القانوني والإنساني تجاه التصدي لظاهرة العنف الأسري، ونشر ثقافة مكافحة العنف.

ذلك يتحقق بتفعيل القوانين المرتبطة بالاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان في تلك المؤسسات وتفعيلها، فدول الخليج أغلبها عضو في هيئة الأمم المتحدة، وبعضها من الدول المؤسسة ووقعت اتفاقيات ومعاهدات دولية لحقوق الإنسان وحمايته من الإيذاء.

إن واجبها استحداث مواد في دساتيرها الوطنية تغلق المنافذ المشرعة للعنف الرمزي كالولاية على المرأة وتقييد حريتها وحركتها، وتحول دون التدخل السافر في قراراتها الخاصة كحق التنقل والتجارة والزواج وغيرها من الحريات. ومن ثم النظر بعين الاعتبار لتحسين مرفق القضاء، الذي هو أهم مرافق الدولة، والذي ما زال يرشح بتأويلات القرون البائدة وتفعيل آراء تراثية تنتقص المرأة وتفرض عليها ثقافة أبوية مستبدّة تناقض الوثائق الدولية المطالبة بالقضاء على كل أنواع العنف السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي.

* كاتبة سعودية