أيمكن القول إن الجهود الحكومية يجب أن تشكل رأس المعالجة؟

لا ... الجهود الحكومية ضرورية.. لكن هناك مؤثرات البيئة المحلية والعولمة

TT

أعتقد أنه لا يمكن للجهود الحكومية أن تؤتي نتائج مثمرة في ظل انعدام بنية قوانين صارمة وواضحة تخص الأسرة، ليست تلك المستوردة من الغرب بالضرورة، ولكن لا بد من قوانين ملزمة في نهاية الأمر.

إن العنف والتطرّف والاعتداءات وغيرها تعبر عن احتقان نفسي وجسدي وذهني. وهذا يعني أننا بحاجة لإعادة إنتاج منظومة تربية صحيحة ومرنة، وتوفير مناخات منفتحة للجميع للتعامل معا بأريحية مختلفة عن حالة الحشد الفكري الحاصلة اليوم عبر «تويتر» وغير «تويتر». نحن في منطقة الخليج بحاجة لتوفير أمكنة لعب وممارسة الهوايات والرياضة. وبحاجة لعدالة اجتماعية تمنع الإحساس بالفوارق المادية. بحاجة لتعليم جيد ولخدمات اجتماعية متوافرة بشكل عادل. وبحاجة لمناهج تعليم تشجع الحوار والنقاشات بعيدا عن القمع والتشدد! إن الأسرة تدفع غاليا ثمن كل إرهاصات الانفتاح والعولمة وانفجار التكنولوجيا وهي لا تحظى بما يكفي من الرعاية الشاملة، ولذا فإن الجهود المبعثرة أو القاصرة لن تقود إلى نتائج متكاملة.

لقد أصبحت العلاقة واضحة، بل وجلية بحيث لا يمكن نكرانها، بين التبدلات الاجتماعية والثقافية التي طرأت على الأسرة الخليجية، تحديدا، ومظاهر العنف المختلفة التي أصبحت تعبر عن نفسها بشكل ملحوظ من قبل أفراد هذه الأسر في علاقتهم بالمجتمع المحيط بهم سواء جسديا أو فكريا. هذا العنف لم يعد مجرّد تصادم وعراك بالأيدي فقط يمارسه صبية في الشوارع والأحياء كسلوك اعتيادي مألوف، بل تعدى ذلك ليصبح عنفا لفظيا صارخا، وعنفا فكريا ومعتقديا - إن جاز لنا استخدام هذا اللفظ - يلجأ إليه البعض لتمييز أنفسهم ومهاجمة المختلفين معهم، وهو ما بات أكثر شيوعا على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة! إن الشباب الذين يخرجون إلى الحياة، في الجامعة والوظيفة ومواقع التواصل الاجتماعي، يعبرون عن أنفسهم ومعتقداتهم ونظرتهم للحياة والآخر بأشكال متعددة وحرة، لكنهم في نهاية الأمر يعبرون بتلك الأدوات والوسائل التي تعلموها من الأسرة أولا، ثم من مناهج التعليم والإعلام ومجموعات الرفاق الذين ينضمون إليهم في مراحل عمرية مختلفة. هؤلاء الشباب في علاقاتهم ببعضهم، وكذلك الرجل (الأب) في علاقته بزوجته وأبنائه، والشاب أو المراهق في علاقته بالفتاة التي قد تكون أخته أو قد تكون فتاة أخرى تمثل «الآخر» المختلف عنه.. والذي لم يتعلم أو يتدرب بعد على الطريقة الصحيحة والصحية للتعامل معه. كل هذه الأطراف تنتج في سلوكياتها اليومية عنفا معينا بشكل أو بآخر موجه للخارج صار يعبر في السنوات الأخيرة عن علاقة مأزومة تعيشها جميع الأطراف دون أن يعرف أحد منها كيفية الخروج من مأزقها.

اليوم أمامنا ليس فقط ظاهرة جرائم الاعتداء على المرأة وتعنيفها، بل أيضا الاعتداء على الأطفال جسديا ولفظيا وكذلك التحرّش بهم جنسيا، وهو أحيانا يحدث من داخل الأسرة ومن أطراف مقربة جدا منهم. وهذا الأمر أصبح شائعا هذه الأيام وكوننا لا نقرأ أرقاما أو لا نسمع حديثا صريحا بهذا الشأن فإن الأمر مردّه للطبيعة المحافظة للمجتمعات الخليجية التي تعتبر التصريح بهذه الأمور نوعا من الفضيحة المدمرة لكل العائلة فتعالج الأمر بالصمت التام.

العنف ضد المرأة والطفل استدعى القرارات التي اتخذت أخيرا في غالبية دول الخليج ونصت على إنشاء مؤسسات لرعاية المرأة والطفل، كي تتولى معالجة الإشكالات الطارئة التي تُدعى لمعالجتها، وفي أحيان كثيرة تتولى إيواء النساء المعنفات والأطفال المعنفين جسديا في مراكز الإيواء الخاصة بهذه المؤسسات. وفي دولة الإمارات العربية المتحدة أصدر مجلس الوزراء الإماراتي قانونا قبل عرف بـ«قانون وديمة» لحماية الأطفال من العنف والإساءة، وذلك في أعقاب جريمة قتل الطفلة «وديمة» على يد والدها وصديقته.

إن هناك علاقة لم تتبلور بعد بين هذا العنف الأسري والجهود التي تبذلها الحكومات الخليجية من خلال مؤسساتها المعنية بشؤون تنمية الأسرة ورعايتها. لقد ظلت هذه المجتمعات ولعهد قريب تنفي - كما ذكرنا - وجود أي عنف في داخلها، بل ووجود أي خلل في علاقات أطرافها. وكانت الإحالة دوما للماضي وطبيعة الأسرة المترابطة والمتماسكة في تلك السنوات الغابرة. بل تعدّى الأمر إلى المسارعة بتصوير كل نقد يوجه إلى ظواهر التفكك والعنف على أنه «تشويه للمجتمع» ولصورته المثالية التي كانت خلال سنوات الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، متناسين أننا لم نعد في تلك السنوات ونحن كبقية مجتمعات العالم نعاني ما تعانيه جرّاء هجمة العولمة والانفتاح، وثورة التقنية، ومواقع التواصل الاجتماعي، والثقافات المختلطة التي أصبحنا نعيش مأزق الموقف منها: تبنّيها بالكامل أم رفضها بالمطلق.

* كاتبة إماراتية