هل يشكل الشرق الأوسط حقا منطقة حيوية لموسكو أم يريد بوتين الاستفادة من الضعف الأميركي؟

لا... موسكو حاولت في الماضي وفشلت وكل ما تفعله اليوم التلاعب بالتوتر الإقليمي

TT

لم تكف موسكو يوما، سواء في عهد حكومة الاتحاد السوفياتي السابق أو اتحادها الروسي الجديد، عن السعي إلى لعب دور محوري في الشرق الأوسط. وعدا عن مناسبات نادرة، أخفقت موسكو في تحقيق ذلك الطموح؛ فقد شهدت السنوات القليلة الماضية تهميش الدور الروسي في الربيع العربي والمفاوضات العربية - الإسرائيلية، وإن تجدد حاليا في المباحثات الروسية - الإيرانية. قد يكره المسؤولون الروس تهميش دورهم في الشرق الأوسط، لكنهم غير مستعدين لإنفاق مواردهم على المنطقة التي تحتل ذيل قائمة اهتماماتهم بعد أوروبا وآسيا، وتحديدا جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق.

لقد أوضح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عام 2004 صراحة أن «السياسة الروسية لا تدعم أيا من إسرائيل أو العرب.. وأنها لا تكترث سوى بتحقيق المصالح الروسية». وهذه المصالح يأتي من بينها تحقيق عائدات من خلال مبيعات السلاح، والنأي بموسكو عن السياسات الغربية التي لا يؤيدها الشعب الروسي، من دون محاولة إعادة دور روسيا كلاعب محوري في شؤون الشرق الأوسط، وهو ما لم تتمكن من تحقيقه بنجاح.

صانعو السياسة الروس يسعون عند صياغة سياساتهم تجاه الشرق الأوسط إلى تقييم مدى تأثير القرارات التي يتخذونها على مصالح موسكو في الأقاليم الأخرى. فلطالما ضحت روسيا بمصالح شركائها في مقابل أولويات أخرى، منها على سبيل المثال، إلغاء روسيا صفقة بيع أنظمة الدفاع الجوي المتطورة «إس 300» لإيران مقابل إنهاء إسرائيل تعاونها العسكري مع جورجيا. كذلك لم يُبد القادة الروس أي اهتمام بـ«الربيع العربي»؛ فقد كانت لهم علاقات جيدة مع كثير من القادة المستبدّين في العالم العربي. أما الآن، فيسعى المسؤولون الروس إلى بناء علاقات جيدة مع حلفائهم، ولكن، باستثناء الدعم الملحوظ للنظام السوري، لم تبذل موسكو جهدا واضحا للدفاع عن حلفائها أمام الثورات المحلية، فهاجم المسؤولون الروس دول الغرب لاستخدامها القوة المُفرطة في ليبيا، لكن معارضتهم لم تتجاوز التصريحات.

اهتمام روسيا المتواضع بالشأن الليبي كان واضحا في وجهات النظر المتباينة لزعيمي روسيا في ذلك الوقت، رئيس الوزراء فلاديمير بوتين والرئيس ديمتري ميدفيديف، حول كيفية الرد على التدخل الغربي في ليبيا. الأمر ذاته ينطبق على إيران، فالسياسة الروسية غالبا ما تتأثر ببعض جماعات المصالح، بما في ذلك جماعات الضغط النافذة في ميداني السلاح والطاقة.

أما الدور المفضل الذي تحب أن تلعبه روسيا في الشرق الأوسط فهو دور الوسيط الذي يستطيع، بعكس الحكومات الغربية، أن يتصل بجميع الأطراف. فلطالما برر الدبلوماسيون الروس احتفاظهم بعلاقات جيدة مع سوريا وإيران وحزب الله، وحتى حماس، بقولهم إن سياستهم تسمح للحكومات الغربية بأن يكون لها موطئ قدم في المفاوضات مع تلك الأطراف.

الروس يجدون في الواقع دور الوساطة مغريا، فهو يتيح لروسيا أن تضطلع بدور عالمي مؤثر من دون أن تبذل مجهودا في إيجاد أي حلول، خاصة أثناء المفاوضات. ثم إن دور الوساطة يمكّن روسيا من اتخاذ موقع جيد للتلاعب بالتوترات بين الأطراف المختلفة لصالح موسكو. ولقد دأبت روسيا على الحفاظ على دورها الرئيس في عملية السلام الإسرائيلية - الفلسطينية كعضو في اللجنة الرباعية الدولية. وهي تسعى حاليا لتعزيز دورها الدولي باستضافتها لمؤتمر حول السلام في الشرق الأوسط.

مع هذا، فشلت جهود الوساطة الروسية في منع وقوع حروب إسرائيل مع حماس وحزب الله. لكن، إجمالا، أظهر اللاعبون المحليون (الشرق أوسطيون) اهتماما ضعيفا في اللجوء إلى خدمات موسكو في الوساطة، إذ بذلوا مجهودا أكبر في التواصل مباشرة مع الولايات المتحدة وحلفائها.

على أي حال، انتهجت روسيا في عهد الرئيس الحالي فلاديمير بوتين أسلوب «السياسة الواقعية» تجاه الشرق الأوسط، وكافحت من أجل توطيد المصالح الروسية، بينما تجنبت في المقابل تبني الدبلوماسية «القائمة على القيمة» التي تنتهجها الحكومات الغربية. وهي ترى في السياسة الغربية دبلوماسية ذات معايير مزدوجة (تهاجم إيران ولا تهاجم إسرائيل) وسلبية المردود (بما أن المساومة على القيم أمر صعب).

في هذا السياق، يسمح أسلوب «السياسة الواقعية» للمسؤولين الروس بالتعاون مع إسرائيل، وكذلك مجموعة مختلفة من الدول العربية. كما أنهم يعلنون معارضتهم لانتشار الأسلحة النووية، بينما يوفرون الحماية لإيران من التهديدات الغربية والإسرائيلية المعارضة للانتشار النووي. فالدبلوماسيون الروس ينتقدون بشدة الفشل الأميركي في إحلال السلام في العراق، لكنهم انتقدوا تعجل البنتاغون في الخروج من العراق قبل إنهاء المهمة (الأمر الذي يتكرر حدوثه الآن في أفغانستان).

وعلى الرغم من أن القادة الروس يزعمون أن بلادهم تواجه خطر «الإرهاب الإسلامي» مثلها مثل بقية الدول الغربية، فإنهم يهاجمون ما يسمونه «حملة الغرب الصليبية الدينية» ضد المسلمين. لكن الروس، الذين تقلقهم الصراعات الداخلية بين المسلمين والآخرين، يسعون إلى تجنب التورط في أي «صراع حضارات» بينما يحرصون على تصوير بلدهم على أنه يلعب دور «الجسر» بين تلك الحضارات.

الروس مطمئنون للوضع الراهن في إيران. فهم يعارضون حصول إيران على أسلحة نووية، لكنهم في الوقت ذاته يعارضون أي هجوم غربي أو إسرائيلي من الممكن أن يشجّع التطرف الإسلامي أو يؤدي إلى تغيير يستحيل التنبؤ به للنظام في طهران، الذي قد يأتي بحكومة إيرانية أصولية متطرفة أو يأتي بحكومة أكثر موالاة للغرب، وكلاهما خيار مضر بمصالح موسكو.

إضافة إلى ما سبق فإن المناوشات التي تحدث بين إيران ودول الغرب تجعل من روسيا الشريك الاقتصادي الأكبر لإيران. واستبعاد إيران من المشاركة بالأرض أو النفط والغاز الطبيعي في خطوط الطاقة الغربية «عبر بحر قزوين»، التي يرعاها الغرب.. والتي من الممكن أن تقلل من اعتماد أوروبا على الإمدادات الروسية، يؤدي إلى رفع أسعار الطاقة عندما يجري استبعاد النفط والغاز الإيراني من الأسواق الدولية، وهذا ما يجعل موسكو تقوم بدور الوسيط في بعض الأحيان بين إيران والغرب.

من ناحية أخرى، ترتبط روسيا بعلاقات تجارية مع بعض دول الشرق الأوسط التي تشتري السلاح الروسي وتستضيف المستثمرين الروسيين، لكن ينبغي تحاشي المبالغة في الاعتماد على ذلك الطرح، لأن الزبائن الأكثر شراء للأسلحة الروسية هم الصين والهند. كذلك فإن لدى شركات السلاح التابعة لوزارة الدفاع الروسية كما هائلا من العقود الغربية، وبالتالي فلن تتعرض لخسائر تذكر إذا ما توقفت صفقات الأسلحة مع سوريا أو إيران. فتجارة روسيا الإجمالية مع الصين والهند وبعض الدول الأوروبية الكبرى تتخطى بمراحل حجم تجارتها مع دول الشرق الأوسط. في نهاية الأمر، الإدلاء بالتصريحات سهل، والقادة الروس يفعلون ذلك بسهولة، بينما ينفقون القليل من الموارد لتعزيز مصالح موسكو المتواضعة في الشرق الأوسط. الكرملين يفضل الحصول المجاني على ثمار جهود الآخرين بينما يتلاعب بالتوترات الإقليمية لحساب موسكو.

* كبير زملاء ومدير قسم التحليل السياسي - العسكري في معهد هدسون بالولايات المتحدة