أتتوقع استمرار هذا الوضع الإقليمي أي تقدم روسيا مقابل تراجع الدور الأميركي في المستقبل المنظور؟

لا... دفاع موسكو عن النظام السوري هدفه تعويض خسائرها من «الربيع العربي»

TT

إن التوازن الدولي النسبي الذي كان سائدا إبان «الحرب الباردة» بين الاتحاد السوفياتي (السابق) والولايات المتحدة الأميركية كان عمليا راجحا لمصلحة الأخيرة، لا سيما الانتشار والتدخلات العسكرية على امتداد الكرة الأرضية. وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي وولادة روسيا الاتحادية غادرت هذه الأخيرة العدائية والتحدي المباشر للغرب بشكل عام، ولم تعد تعتبر التحركات العسكرية الغربية موجهة ضدها، وبالتالي، تهدد أمنها القومي.

إلا أن روسيا لم تكن تساوم مطلقا على المناطق القريبة من حدودها والتي تمثل مجالا حيويا لمصالحها. وبعد النهوض الاقتصادي الذي ارتكز على ارتفاع أسعار الغاز، وعلى الرغم من التفوق الأميركي في مجال التسلح، باستثناء السلاح النووي، عادت روسيا إبان أحداث جورجيا عام 2008 لتنفيذ خطة تعيد إليها حضورها العسكري والسياسي. وفي إطارها أعادت الطلعات الجوية الاستراتيجية، وأجرت البحرية الروسية مناورات ضخمة في المحيط الأطلسي، في عرض للقوة هو الأكبر منذ فترة طويلة. ثم إنها أعادت الزيارات التقليدية للأسطول الروسي الكبير إلى موانئ الدول الصديقة، كسوريا وفنزويلا وكوبا ونيكاراغوا، بالإضافة إلى إجراء أضخم عرض عسكري في الساحة الحمراء بمناسبة «يوم النصر».

وعلى الرغم من التعاون وتبادل المصالح بين واشنطن وموسكو، خاصة، ضد التطرف في باكستان وموضوع أفغانستان والملف النووي الإيراني، فإن التعارض بعد «11 سبتمبر (أيلول) بين أميركا وروسيا كان واضحا نتيجة لدخول الشرق الأوسط من قبل أميركا من زاوية مواجهة الإرهاب والخلاف على تحديد مفهومه. وكان الروس يدركون الأهداف الأميركية والأطماع في السيطرة على النفط. وبدأ الهجوم الأميركي - البريطاني على العراق من دون تغطية من مجلس الأمن، وتم احتلال العراق على الرغم من معارضة روسيا وفرنسا، إلا أن الموقف الروسي حَكَمته المصالح بالدرجة الأولى من خلال حصول الشركات الروسية سنة 2009 على صفقة تحديث حقول النفط العراقية. وبعد فشل النتائج السياسية المنشودة من قبل أميركا في العراق، وبعد زيادة النفوذ الإيراني فيها وفي المنطقة، دخلت روسيا بقوة على الخط الإيراني في مواجهة أميركا ومحاولة الاستفادة من قدرات إيران المالية والاقتصادية واستهداف تركيا التي تشكل الذراع الأقوى في المنطقة للحلف الأطلسي، بالإضافة إلى تحييد المخاطر الإيرانية المستقبلية على روسيا.

وفي عام 2007 حاول بوتين تحفيز الدول الشرق أوسطية في التسلُّح لكي تكون سوا كبيرة للسلاح الروسي ولتأمين الدفاعات العسكرية القوية للدول النفطية بعد احتلال أفغانستان والعراق، خاصة بعد اكتشاف المخزون الكبير من الطاقة في بحر قزوين والصراع عليه وعلى خطوط الإمداد ما بين أميركا وروسيا، بالإضافة إلى اكتشاف القدرات الكبيرة في الشرق الأوسط من النفط والغاز، لا سيما في لبنان وسوريا، حيث أرادت روسيا أن تكون شريكا أساسيا في ذلك فطورت مرفأ طرطوس في سوريا حيث توجد قاعدة عسكرية لها.

روسيا لُقنت درسا في ليبيا بسبب ترددها بين الحفاظ على مصالحها الضخمة في هذا البلد من المشاريع الاستثمارية للشركات الروسية إلى صفقات السلاح، وفي عقود تجارية أخرى، لا سيما بناء محطة نووية للأغراض السلمية وإنشاء مترو الأنفاق في طرابلس. وحاول الروس إبان اندلاع الثورة في ليبيا أن يلعبوا دورا وسيطا لكنه منحاز للنظام، ولم يقتصر موقفهم إلا على المطالبة بحماية المدنيين، فناصبوا للشعب الليبي العداء، وسقطت مصالحهم وبخسائر فادحة، واستعيض عن شركاتهم بشركات أخرى. بالإضافة إلى الضربات الاقتصادية التي وُجهت لهم في تونس واليمن ومصر، وذلك كله بسبب سياسة التردد ومحاولة الحفاظ على الأنظمة في ظل «الربيع العربي» الصاعد.. حيث كان موقفهم يخفي مهادنة ودعما للديكتاتوريات، فأصبحت روسيا الخاسر الأكبر من الثورات العربية. إن استماتة الروس في الدفاع عن النظام السوري تهدف فقط إلى تعويض خسائرهم الناتجة عن الربيع العربي، خاصّة في ظل ما تختزنه سوريا من ثروات من النفط والغاز، ولذلك اعتبر الروس بموقفهم الرسمي أن مصير الوضع في سوريا سيرسم طبيعة النظام الدولي الجديد. ثم إن العقل الروسي يحاول تأمين وتعزيز وتطوير التواصل مع مصالحه في سوريا القائمة على صادرات الأسلحة والعقود التجارية والمصالح المالية والمشاريع الاستثمارية، كإنشاء المصانع والبنى التحتية في سوريا، بينما إيران تسدد المستحقات السورية أو جزءا منها للخزينة الروسية. وحقا فتح الموقف الروسي من الأزمة السورية آفاقا اقتصادية مع العراق وإيران لا سيما صفقات السلاح الضخمة.

يبدو للمرء أن الموقف الروسي حيال الأحداث السورية شكل «هجوما مضادا»، إلا أن جوانبَه السلبية بالنسبة إلى الروس تتمثل في تزايد العداء من الشعوب العربية خاصّة الشعب السوري. ثم إن سبب انطلاقهم هو أنهم لم يعد لديهم شيء يخسرونه في حال خسارة سوريا، في الوقت الذي يبحثون فيه عن الشراكة في تقاسم الثروات بتثبيت معادلة التوازن تحديدًا مع أميركا والصين، مع اعتقادي بأن الروس لن يتمسَّكوا بنظام الأسد في حال نجاح تسوية تقسيم المصالح لأن المبدأَ الذي يحكم الأولوية في موقفهم السياسي تغليب المصالح على المبادئ.

إن التردد الذي حَكَم موقف أوباما تحديدًا حول الأحداث السورية في مواجهة التشدد الروسي، أظهر صورته الضعيفة أمام المجتمع الدولي وأمام الرأي العام الأميركي، بما فيها أطراف الإدارة الأميركية وأمام الحزبين الجمهوري والديمقراطي اللذين رفضا موقفه المتأخِّر في التعاطي مع الأزمة. وأتت موافقة النظام السوري على نزع السلاح الكيماوي وتدميره حلا مؤقتا لمأزقه وورقة قوية لمصلحة إسرائيل، التي سحبت مبرر توجيه الضربة العسكرية لسوريا، مع العلم بأن روسيا ليست بعيدة عن التعاون الاقتصادي مع إسرائيل، لا بل تعتبرها شريكة أساسية في المصالح في الشرق الأوسط، عدا عن التقاطع بين أميركا وإسرائيل وروسيا وإيران حول مواجهة التشدُّد الإسلامي.

علينا ألا نغفل الأهداف الاستراتيجية الروسية القائمة على النزعة السوفياتية ولو مختلفة في الشكل، وهي التي تطمح إلى إحياء الدور الروسي العالمي ومصالحه القومية ومكانته الدولية، وهذا ما جعل بوتين يتشدَّد في رفض التفرُّد الأميركي، ويضَعَ الشرق الأوسط في مقدمة اهتماماته وحصل على عقود كبيرة في لبنان وسوريا حول ملف النفط.

* كاتب ورئيس «الحركة اليسارية اللبنانية»