هل توجد خيارات أمام الدول الخليجية إزاء الهرولة الأميركية للانفتاح على إيران؟

نعم... ما حصل في جنيف يشكل هزيمة محققة للتيار المتشدد في إيران

TT

لا يزال الوقت مبكرا للوصول إلى تقدير استراتيجي كامل لأهمية وتبعات «اتفاق جنيف» حول مستقبل برنامج إيران النووي في 24 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بين إيران و«مجموعة 5+1» ومشاركة الاتحاد الأوروبي، فالشهور القادمة ستكشف ما إذا كان الاتفاق يمثل بزوغ نقطة تحول تاريخي في سياسات إيران الدولية والإقليمية أم أنه مجرد فجر كاذب. ولكن يمكن القول بقدر غير قليل من الثقة إنه، ضمن المعطيات الحالية، لا توجد أسباب جوهرية ودائمة للخشية على دول الخليج العربي من الانفراج النسبي الأخير في العلاقة الأميركية - الإيرانية. فهذا الانفراج الذي ظهر علانية في نيويورك خلال سبتمبر (أيلول) الماضي بعد شهور من التحضير السري ودشنه «اتفاق جنيف»، يسير في سياق ما زال فيه منع إيران من الوصول إلى حالة التسلح النووي، يمثل هدفا استراتيجيا مشتركا لدول الخليج والولايات المتحدة. بل إن «اتفاق جنيف» دفع وصول الطرفين الأميركي والخليجي إلى هذا الهدف المشترك، ذي الأهمية الاستراتيجية القصوى، خطوة واسعة إلى الأمام.

وحتى يقدر المرء أهمية هذه الخطوة حق قدرها، فلعله يلجأ إلى تصور حجم «الصداع» السياسي والاستراتيجي الذي كان سينتاب منطقة الخليج لو أنها استيقظت صباح 24 نوفمبر على خبر تجريب ناجح لسلاح نووي إيراني! هذا الأمر كان سيحصر واقعيا رد فعل دول الخليج في خيارات ثلاثة، أحلاها مر: فإما التسليم بإيران نووية مع الدعاء الدائم أن لا يسقط سلاحها النووي في أياد مجنونة أو مغامرة، وإما محاولة الموازنة عن طريق السعي للحصول على سلاح نووي، ما يعني - لا محالة - سلوك طريق وعر مليء بالمواجهات مع دول وقوى لدول الخليج معها روابط تاريخية واستراتيجية وثيقة. ويتمثل الخيار الثالث باستدعاء غطاء نووي خارجي بكل ما يحمل ذلك من أثمان سياسية، وما ينطوي عليه من تشييد بنية في الاعتماد على الخارج تشي التحولات الأخيرة في السياسة الدولية بأنه لم يعد الركون إليه مسألة مطمئنة.

في حقيقة الأمر فإن «اتفاق جنيف» يمثل هزيمة محققة - نأمل أن لا تكون مرحلية - للخط الراديكالي المتشدد في إيران، الذي قاد منذ منتصف العقد المنصرم، مواقف تصادمية وبوتائر متصاعدة في إدارة الملف النووي لم تجلب للمنطقة إلا الكثير من الاحتقان وللشعب الإيراني المزيد من المتاعب. ويكفي للتدليل على هذه الهزيمة أن إيران رضخت لمطالب كانت معروضة عليها منذ منتصف العقد الماضي غير أنها رفضتها على الرغم من اقترانها بحوافز تفوق بمراحل ما حصلت عليه في الاتفاق الأخير. بل إن ما حصلت عليه إيران في جنيف من رفع لبعض العقوبات وجزء من أموالها المجمدة في الخارج (سبعة مليارات دولار أميركي من جملة 100 مليار دولار) ليس أكثر من رفع لبعض العقوبات التي نشأت بعدما رفضت طهران على مدى السنوات الثماني الماضية عروضا قبلتها بحماس في «اتفاق جنيف» الأخير. أما ما تزعمه الدعاية الإعلامية الإيرانية ومن يدور في فلكها، بدراية أو غفلة، من أن «اتفاق جنيف» يمثل «نصرا إيرانيا» لأنه أعطى إيران حق تخصيب اليورانيوم داخل أرضها بنسبة لا تزيد عن 5% (وهي النسبة المطلوبة لإنتاج الكهرباء من الطاقة النووية)، فإن هذا الزعم لا يعدو أن يكون عذرا واهيا لحفظ ماء وجه القوى المتشددة في طهران... الذي أريق الكثير منه في جنيف. إذ يعلم كل مهتم أن السماح بالتخصيب حتى نسبة 5% هو حق يضمنه التوقيع على معاهدة منع الانتشار(NPT)، وتقوم وكالة الطاقة النووية بالإشراف على ضمان حصول الدول الموقعة عليه، بل وتقديم المساعدة الفنية له في الحصول على ذلك مقابل التزام يمكن للوكالة التحقق المستمر منه في حظر التخصيب لنسب قابلة للاستخدام لأغراض غير مدنية (أعلى من 5%).

حتى «الصقور» في الولايات المتحدة في عهد الرئيس جورج بوش الابن وجدوا صعوبة بالغة في التسويق لشركاء واشنطن الأوروبيين، ناهيك بروسيا والصين، فكرة المنع الكامل لإيران من التخصيب. فهذه الفكرة تخل بالحقوق التعاقدية للدول الموقعة مثل إيران، التي تضمنها معاهدة منع الانتشار، ولم تجد الولايات المتحدة بدا من التراجع عنها بصورة فعلية عندما أيدت العرض الأوروبي لإيران في عام 2008، وهو عرض رفضته الأخيرة في حينه رغم ما صاحبه من حوافز مغرية غابت عن «اتفاق جنيف» الأخير.

مشكلة إيران ما كانت مع المجتمع الدولي في مسألة حقها بتخصيب اليورانيوم لأغراض سلمية، فهذا مطلب إسرائيلي حصري، لا علاقة له بالمواقف المبدئية لمجموعة «5+1» أو دول مجلس التعاون، وإنما تركزت مشكلة المجتمع الدولي معها في البرامج النووية السرية التي باشرتها منذ منتصف التسعينات بعيدا عن أعين وكالة الطاقة الذرية، فضلا عن إعاقة عمل الأخيرة في التفتيش الفعال والمستمر على المواقع المعلنة، وإقدامها على رفع نسب التخصيب بما يفوق 5%. وفي مقابل الانصياع الإيراني، المرحب به خليجيا، في جنيف لمتطلبات معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، فإن من شأن التطبيق الأمين لنصوص الاتفاق أن يكفل الوصول إلى صيغة شاملة تضمن لإيران الحق في الحصول على الطاقة النووية لأغراض الاستخدامات السلمية، مقابل منعها في الوقت ذاته بصورة كاملة من تطوير سلاح نووي.

في المحصلة، تتمثل الغاية النهائية من الاتفاق، كما جاء في خاتمته، في جعل إيران تحصل من المجتمع الدولي على المعاملة ذاتها التي تتلقاها الدول الأخرى الموقعة على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية. أي حصول إيران على ذات الحقوق التي منحها لها مصادقتها على المعاهدة في عام 1968، وأعاقها من الوصول إليها السياسات المغامرة التي انتهجتها خلال السنوات الـ15 الماضية. ولا شك أن ما أجبر إيران على توقيع «اتفاق جنيف» التطبيق الناجح خلال السنوات الأربع الأخيرة نمط من الدبلوماسية القسرية شاركت فيه بفعالية أطراف دولية وإقليمية متعددة وقادته الولايات المتحدة. وتمثل في المثابرة على تشديد العقوبات الاقتصادية والمالية. وحقا كان من مفاعيل هذه المقاربة الضاغطة إحداث تغيير في الداخل الإيراني لغير صالح القوى الأكثر تشددا، قطف حسن روحاني ثمرتها بانتخابه رئيسا.

بالتالي، يمكن القول إن مسار «اتفاق جنيف» بات مرتبطا بقدرة القوى الأقل تشددا في إيران في التفوق المتصاعد على القوى الأكثر تشددا. كذلك يشكل توقيع هذا الاتفاق مؤشرا أوليا على هذا، كما يرتبط بتحولات إقليمية لم تكن في صالح إيران . غير أن النظر إلى «اتفاق جنيف» على أنه دليل على بداية هزيمة الخط المتشدد في طهران ينبغي أن لا يجعلنا نغفل عن المخاطر التي ينطوي عليها الاتفاق. فتنفيذ «اتفاق جنيف» يعتمد على عدة عوامل لا يوجد ما يبعث اليقين على توافرها أو ديمومتها، أهمها التنفيذ الأمين من قبل إيران لبنود الاتفاق - وتاريخ إيران القريب لا يشجع على ذلك – ومنها أيضا انعدام ضمانة عجز الخط المتشدد في طهران عن زمام قيادة موضوع الملف النووي. وفي التحليل النهائي يبقى ضمن حقائق النظام السياسي الإيراني أن منصب رئيس الجمهورية موقع خاضع لسلطة المرشد. وبناء عليه، فإن فشل «اتفاق جنيف» لأسباب إيرانية احتمال وارد، لكنه عند حدوثه سيجعل الخيار العسكري أمرا سيجد ساكن البيت الأبيض صعوبة في تجنبه، بصرف النظر عن تحفظاته الشخصية الراهنة حياله.

* أكاديمي استراتيجي وسياسي سعودي - مشرف على مركز الدراسات الأوروبية، في معهد الدراسات الدبلوماسية بالرياض.