هل توجد خيارات أمام الدول الخليجية إزاء الهرولة الأميركية للانفتاح على إيران؟

لا... عبارة «الهرولة» غير دقيقة.. ولا حاجة لتطوير دول الخليج خيارات استثنائية

TT

أبدأ بالقول إنني «لا» أعتقد أن كلمة «هرولة» تصف بدقة الانفتاح الأميركي على إيران، ومن ثم أقول «لا» ثانية حول الحاجة إلى تطوير الدول الخليجية خيارات استثنائية للتعامل مع هذا الوضع.

دول الخليج العربية، مثلها مثل أي دول تنتمي إلى منظومة إقليمية، «ثوابت» وكذلك «متغيرات» لا بد منها لمواكبة أي تغيرات طارئة أو محسوبة في العلاقات الخارجية والإقليمية. وبالتالي، أقول إن دول الخليج تدرك سلفا أنها تجاور إيران، كما تدرك جيدا أنها تنتمي إلى عالم عربي يعيش منذ 1948 مواجهة لم تنتهِ بعد مع إسرائيل. وهي – أي دول الخليج – تتفهم جيدا أنه في السياسة «لا عداوة دائمة ولا صداقة دائمة»... وهذا ينطبق على علاقات الولايات المتحدة بإيران، وكذلك إسرائيل بإيران. وهنا، أزيد بالقول إنني أرى وجود تناقض جدي بين واشنطن وتل أبيب في ملف التقارب، وبناء عليه أميل إلى الاعتقاد بأننا في بداية مسار سيتعرض لعدة تبدلات تشهدها واشنطن وتل أبيب – بالذات – وليس إلى حالة «أمر واقع» نهائي.

لفهم أعمق لهذه القضية لا بد من فهم المسار الكرونولوجي للعلاقة الإسرائيلية الإيرانية المحكومة بمنطق المصالح الاستراتيجية لا بمنطق الآيديولوجية. فالعلاقة مرت بعدة مراحل بدءا من الشراكة الاستراتيجية أيام الشاه، وهي مرحلة محكومة بما يسمى بعقيدة «التحالف المحيطي» (The Alliance of the Periphery). وهي نظرية جرى تطويرها من قبل ديفيد بن غوريون وتقوم على تطوير تحالفات استراتيجية وثيقة مع دول غير عربية في الشرق الأوسط (إيران الشاه وتركيا) لمواجهة الدول العربية التي كانت في حالة حرب مع إسرائيل. ثم تحولت هذه العلاقة مع مجيء الخميني إلى السلطة عام 1979 إلى مرحلة التحالف من خلف الستار أو ما يطلق عليه «Distant Alliance». وعلى الرغم من أن وصول الخميني إلى السلطة أدى إلى تأزم العلاقات الإيرانية الإسرائيلية فإن الدكتور تريتا بارسي (Trita Parsi) مؤلف كتاب «Treacherous Alliance: The Secret Dealings of Israel، Iran، and the United States» يرى أن «التحالف المحيطي» لم يتأثر بوصول الخميني إلى السلطة ولا بالخطابات المعادية للصهيونية. ويقتبس بارسي من البروفسور ديفيد مناشري، الخبير الإسرائيلي في الشؤون الإيرانية من جامعة تل أبيب، قوله: «خلال الثمانينات لا أحد في إسرائيل يتحدث عن التهديد الإيراني، بل الكلمة نفسها لم تكن تلفظ»، بل إن إسحاق رابين، ثم وزير الدفاع الإسرائيلي شاؤول موفاز، في أكتوبر (تشرين الأول) 1987 قالا: «إن إيران هي أفضل صديق لإسرائيل». وجاء الدعم الإسرائيلي لإيران أثناء الحرب العراقية الإيرانية تأكيدا على أن العلاقة لم تتأثر لكنها تحولت فقط إلى تحالف من وراء الستار، فقد كان هناك عاملان أساسيان للتقارب الإيراني الإسرائيلي هما التهديد العراقي والتهديد السوفياتي. فبعد انهيار الاتحاد السوفياتي و«حرب الخليج الثانية» في عام 1991، دخلت العلاقة إلى مرحلة جديدة، ألا وهي مرحلة «الحرب الباردة». ففي هذه المرحلة تغيرت البيئة الجيوسياسية لمنطقة الشرق الأوسط، والسببان الرئيسيان لإيران وإسرائيل للتعاون لم يعودا قائمين. ولئن كانت الخريطة الجيوسياسية خلال فترة التسعينات قد حسنت البيئة الأمنية لكل من إيران وإسرائيل فإنها بالمقابل تركت الدولتين بلا رادع. فمن دون العراق كركيزة أساسية للتوازن الاستراتيجي مع إيران شكلت إيران تهديدا لإسرائيل. وهنا تحولت العقيدة المحيطية رأسا على عقب وبدأت إسرائيل في بناء علاقات أوثق مع الدول المجاورة (العربية) في محاولة لعزل إيران وتصويرها على أنها الخطر الرئيس من أجل إقناع واشنطن بمواجهة طهران.

كان الواقع الجديد في المنطقة قد أعاد التوفيق بين إيران الآيديولوجية ومصالحها الاستراتيجية دافعا بطهران إلى تحويل خطابها المناهض لإسرائيل إلى سياسة. وبالتالي، بدأت إيران استهداف ما اعتبرته «الحلقة الأضعف» في هذه الاستراتيجية، ألا وهي عملية السلام الفلسطينية في محاولة لمنع بناء نظام إقليمي جديد يرتكز على استمرار في عزلها. وكانت «حرب العراق عام 2003» نقطة تحول أخرى في العلاقة الإسرائيلية الإيرانية، ففي هذه المرحلة تحولت العلاقة إلى مرحلة المواجهة (Current Hostilities) سهلت إيران احتلال الولايات المتحدة كلا من أفغانستان والعراق في محاولة للتقارب مع واشنطن والخروج من «محور الشر» (Axis of Evil)، إلا أن إدارة بوش بسبب الضغط الإسرائيلي رفضت كل محاولات التقارب واستمرت في عزل إيران وفرض العقوبات عليها. وكان هذا الرفض سببا للتحول في سياسة إيران الخارجية من التفاوض والتعاون إلى المواجهة، إذ دخلت إيران بكل ثقلها في كل من العراق وأفغانستان في محاولة لاستنزاف الولايات المتحدة ونشر الفوضى والاضطراب والقلاقل عن طريق دعم الميليشيات المسلحة التي تقاتل الوجود الأميركي هناك. وكذلك عملت على تسريع برنامجها النووي وزيادة الدعم المالي والأسلحة لحزب الله كجزء من استراتيجية الردع ضد كل من إسرائيل والولايات المتحدة.

لقد أدى الفشل الأميركي في العراق إلى تداعيات جيوسياسية واسعة عززت البيئة المواتية لزيادة النفوذ الإيراني في المنطقة، ما أدى إلى تغيير ميزان التهديد ضد إسرائيل، فإيران أصبحت تمثل تهديدا حقيقيا لإسرائيل من خلال «التحالف الثلاثي» (Triple Alliance) بين إيران وسوريا وحزب الله، الذي يهدد الحدود الآمنة لدى إسرائيل، وكذلك نجاح إيران في امتلاك السلاح النووي سوف يهدد الردع النووي الإسرائيلي. وعليه فقد عملت إسرائيل على كسر هذا التحالف الثلاثي من خلال «حرب 2006» وفشلت، وكذلك حاولت إسرائيل بالتعاون مع الولايات المتحدة منع إيران من امتلاك السلاح النووي عن طريق التهديد بضربات وقائية عسكرية ضد المنشآت النووية الإيرانية، أو من خلال حربها غير المعلنة عبر سلسلة من الاغتيالات تستهدف العلماء النوويين الإيرانيين في محاولة لتعطيل وتأخير النووي الإيراني، تماما كما فعلت قبل 28 سنة في ما يتعلق بالعراق. وكذلك عن طريق سلسلة ممنهجة من الحرب الإلكترونية السرية (Cyber Campaign) بهدف إلحاق الضرر ببرنامجها النووي. وكذلك من خلال بناء تحالف قوي مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للضغط على إيران لثنيها عن امتلاك التقنية النووية، والضغط على حلفاء إيران روسيا والصين لوقف الدعم عن إيران، ويمكن القول إنها فشلت أيضا. وكان أواخر عام 2011 ومعه سلسلة الاجتماعات السرية بين طهران وواشنطن، التي مهدت الطريق للاتفاق المرحلي في جنيف الذي قوبل برفض إسرائيلي، هو برأيي نقطة تحول أخرى في العلاقة بين طهران وتل أبيب. فإسرائيل تخشى أن يؤدي انجراف واشنطن نحو طهران إلى التوصل إلى اتفاق شامل بشأن الملف النووي وملفات أخرى في المنطقة، من دون إجراء التنسيق الكامل مع إسرائيل، ما من شأنه إحداث تغيير استراتيجي في المنطقة واستطرادا تعزيز مكانة إيران بوصفها دولة إقليمية ذات نفوذ واسع في الشرق الأوسط وإلحاق الضرر بمكانة إسرائيل ودورها وتحول علاقتها مع واشنطن إلى عبء متعاظم... لا مصدر فائدة كما حدث بعد «حرب الخليج الثانية»، حين ضغط على إسرائيل لعقد «مؤتمر مدريد» ووقف الاستيطان... في رسالة مبطنة من واشنطن تعبر عن انتهاء حاجتها إلى إسرائيل باعتبارها حصنا ضد الاختراق السوفياتي للشرق الأوسط.

* أكاديمي وباحث سياسي سعودي في الشؤون الاستراتيجية.