هل ذابت الفوارق في نظرك بين الناشط الحقوقي والناشط السياسي في دول الخليج؟

لا.... العمل الحقوقي يتعامل مع مبادئ شبه ثابتة بينما العمل السياسي يتناول تفاصيل متحولة

TT

محاولة فصل حقوق الإنسان عن السياسة هي كمحاولة فصل الملح عن البحر، فعلاقتهما المتداخلة أمر واقع لا فكاك منه، وفصل أحدهما عن الآخر عملية معقدة كمحطة تقطير ماء البحر ينتج عنها الماء العذب. التداخل بينهما منطقي، فالسياسة تتعامل مع الإنسان كونه موضوعا لهيكل بناء القوة في المجتمع، وحقوق الإنسان تتعامل مع الإنسان، كونه قيمة مطلقة لا يمكن تحييدها، أو تهميشها في حلبة صراع القوة المدمر للإنسان.

لا تختلف حقوق الإنسان في الخليج مبدئيا عنها في هندوراس أو موزمبيق أو هاييتي أو سري لانكا، إلا في طبيعة الأنظمة القائمة وقدرتها على استيعاب لحظات التحول التاريخي في العالم (ما يزيد على 70 دولة جرت فيها تحولات جذرية)، واتساق التحول السياسي مع القيمة المطلقة للإنسان. وفي هذا الإطار هناك تلكؤ وجمود لا تخطئهما العين.

في حالات الجمود السياسي المؤسسي كما الخليج، فإن ذلك ينعكس بالضرورة على طبيعة العمل السياسي والحقوقي الذي يسلكه الناشطون في المجالين بصورة تصعب الفصل بينهما؛ فحيث إن آفاق العمل السياسي المنظم في الخليج شبه معدومة، مع كل ما يعنيه ذلك من معاناة قد يواجهها الناشط السياسي، من المتوقع أن يسعى إلى التعبير عن رؤاه من خلال الانخراط في العمل الحقوقي. وقد يحدث هنا أن تنكسر البوصلة، ويضل كل طريقه، فيصبح كـ«المنبت» لا دربا قطع ولا ظهرا أبقى. وهي حكاية مكررة في العمل السياسي العربي بعمومه، لا يقتصر على الانخراط في المنشط الحقوقي لتحقيق أهداف سياسية، ولكن أيضا في العمل النقابي وغيره.

الفصل بين الناشط في العمل السياسي - ولا أقول السياسة - والناشط في حقوق الإنسان ضرورة ملحة لكي تستقيم الأمور ويصبح للنشاط السياسي معناه وفحواه ومنطلقه، كما يصبح للعمل الحقوقي مرتكزه وأسسه ومنهاج عمله. السياسي في الغالب، مع بعض الاستثناءات بالطبع، يتعامل مع حقوق الإنسان كمحطة، وكأداة للتأثير، والنفوذ في مسارات المجتمع والدولة، بينما لا ينبغي ذلك للحقوقي، فهدفه كرامة الإنسان. وبالتالي، لا تكون السلطة هدفا سياسيا لنشاطه بل هدفا حقوقيا، ولا يعنيه - في حالات قلة احترامها للكرامة الإنسانية - من الذي يحكم... ولكن كيف يحكم من منظور إنساني. ولا يعنيه تغيير نظام حاكم، بل تغيير سلوك ذلك النظام. وفي هذه الجزئية بالذات هناك تداخل بين ما هو سياسي وما هو حقوقي في الخليج. إلا أن الملاحظ من خلال استقراء التحولات والمتغيرات السياسية في العالم أنه كلما ازداد الانفتاح السياسي في المجتمع، يزيد بالمقابل فك الاشتباك والتداخل بين العمل السياسي والعمل الحقوقي. إنها علاقة طردية شبه مؤكدة، وهو أمر لا يستثنى منه الناشطون في الخليج.

أما الملاحظة الأخرى، وهنا نقصد الخليج تحديدا، فهي أن انخراط الناشط السياسي في العمل الحقوقي، حتى وإن كان لغرض سياسي، يؤدي تدريجيا إلى تغيرات من حيث الوعي. فالعمل الحقوقي يتعامل مع مبادئ شبه ثابتة، بينما العمل السياسي يتعامل مع تفاصيل متحولة. ذلك يعني أن الانخراط السياسي البحت في العمل الحقوقي، وبالأخذ في الاعتبار آثاره السلبية على المدى المنظور والقصير، يتحول تدريجيا في استيعاب المنظور الحقوقي، ومن ثم يبدأ السياسي بالتغير التدريجي.

من المهم التعامل مع حقوق الإنسان بوصفها عملية طويلة الأمد معنية بتكوين وتشكيل ثقافة، وليس بتحقيق مكاسب آنية على الأرض، كما هي العملية السياسية. كذلك فإن التحولات المؤسسية الدولية والمعرفية الخاصة بحقوق الإنسان تؤثر بشكل مباشر على النشاط الحقوقي والسياسي وتداخلهما في الخليج. فالتطور الهائل دوليا، ولا أقول غربيا، سواء على مستوى المؤسسات أو الاتفاقيات أو التطور المنهجي والمعرفي، وبالذات في الجامعات ومراكز البحث المتخصصة. وبروز نشاط دولي ممنهج للمنظمات الدولية غير الحكومية، جعل من مجال حقوق الإنسان تخصصا يتجاوز في معطياته مجرد نيات طيبة لدى البشر، إذ صار لزاما على من يريد أن يكون حقوقيا فاعلا، استثمار الوقت والجهد والمال لكي يغدو متمكنا من التعامل المعرفي مع تلك التحولات. كذلك عليه أن يستوعب أن يكون الكثير مما يقوم به من نشاط لا يجد طريقه للإعلام، وهي مسألة لا يقدر عليها الناشط السياسي؛ إذ يرتكز الكثير من نشاطه على إطلاق التصريحات أو اتخاذ المواقف السياسية.

أما الإشكالية الأصعب فتكمن في اتخاذ مواقف حقوقية متجردة من الأحداث المتسارعة على الأرض، من تونس إلى مصر إلى البحرين إلى اليمن إلى ليبيا إلى سوريا وغيرها. إذ يفترض بالنسبة للناشط الحقوقي الخليجي أن تكون مواقفه محكومة بالمسطرة الحقوقية، وأي شطط عن ذلك يخرج ذلك الناشط من المنظومة الحقوقية إلى المنظومة السياسية، وهو اختبار - بسبب تسارع الأحداث وارتباطها بالمسافة الحرجة بين ما هو حقوقي وما هو سياسي - رسب فيه كثيرون، فاتخذوا مواقف سياسية لا حقوقية، ولكنها في نهاية الأمر محطة في تاريخ التحولات، ستحسم أمرها مع الوقت، فينفرز السياسي عن الحقوقي وتظل العلاقة بينهما تحكمها أصول التحول الديمقراطي.

* أستاذ العلوم السياسية بجامعة الكويت