أيشكل الاهتمام الحقوقي بداية تأسيس لمفاهيم سياسية حركية؟

لا... لا وجود لأجندات سياسية خفية.. مع أن ثمة حالة تسييس واضحة للعمل الحقوقي

TT

الجواب لا؛ إذا كان يقصد بالسؤال وجود أجندات سياسية خفية للنشاط الحقوقي الذي نما خلال السنوات الأخيرة في دول الخليج العربية. ولكن قد يكون مثل هذا التساؤل مبررا بالنظر إلى الصبغة السياسية الظاهرة للنشاط الحقوقي. نعم هناك حالة «تسييس» واضح للعمل الحقوقي، ولهذه الحالة أسبابها كما أنها ليست بدعا على الناشطين الحقوقيين في دول الخليج العربية. فحالة تسييس النشاط الحقوقي تكاد تكون غالبة على عمل المنظمات الحقوقية في معظم الدول العربية. هذا التسييس يتجسد في جانبين، الأول: نوعية المطالب المطروحة، والثاني: آلية وخطاب الترويج لهذه المطالب. من خلال نظرة سريعة لجهود هذه المنظمات نجدها في الغالب تركز على الحقوق السياسية المتمثلة في حرية التعبير والحق في التجمع وفي التنظيم وفي المشاركة السياسية التي تستغرق الجزء الأكبر من نشاطها على حساب بقية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. ويبرر الناشطون التركيز في جهدهم على هذه الحقوق بكونها المفتاح للمطالبة ببقية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية. فكيف يطالب الأفراد بحقوقهم الاقتصادية في العمل والرعاية الصحية إذا لم يكفل حقهم في التعبير للمطالبة بهذه الحقوق دون خشية من اتخاذ إجراءات تعسفية ضدهم؟

هذا التركيز على الحقوق السياسية تتسبب للناشطين بالدخول في مواجهات مستمرة مع الأنظمة السياسية وتحميلها وحدها كل مشاكل المجتمع ومصائبه. ونتج عن هذه المواجهة المبكرة مزيد من هدر الحقوق. فمن جهة، أغفل الناشطون المطالبة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي تعد في نظرهم ذات مرتبة ثانوية، ومن جهة أخرى تسبب جهدهم الحقوقي «المسيس» في زيادة تعسف الحكومات وتضييقها على المجتمع.

هذه الخلفية للنشاط الحقوقي في العالم العربي، بشكل عام، تضافرت مع أسباب أخرى لتنعكس على الحراك الحقوقي الذي ظهر أخيرا في دول الخليج العربية. ونذكر في مقدمة هذه الأسباب: تغييب مفاهيم حقوق الإنسان في المجتمعات الخليجية لفترة طويلة، وكذلك تشويه هذه المفاهيم. فمن جهة، غيبت حقوق الإنسان لفترات طويلة بحجة أنها تناقض الإسلام وأنها تعبر عن فلسفات وقيم غربية يراد فرضها على العالم الإسلامي بدلا عن المفهوم الإسلامي للحقوق الذي ظهر قبل أربعة عشر قرنا. ومن جهة أخرى تبنت الحكومات الخليجية رؤية مختزلة لحقوق الإنسان حصرتها في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية دون المدنية والسياسية. فالحق، وفقا لهذه الرؤية، اقتصر على التعليم والوظيفة والعناية الصحية والرعاية الاجتماعية، وهو ما نجحت الحكومات الخليجية في ضمانه بسبب الإنفاق المالي الكبير تحت مظلة ما اتفق على تسميته بالدولة الريعية.

ولقد تبنت هذه الحكومات، وحتى وقت قريب، سياسة رعوية لمواطنيها امتدت من المهد إلى اللحد من خلال تقديم كل الخدمات من دون مقابل. وساد اعتقاد أن ضمان هذه الحقوق سيكفل رضا المواطنين ويحول دون سعيهم للمطالبة بأي حقوق إضافية تمس بـ«العقد» الاجتماعي الذي فرض من طرف الحكومات من دون مشاركة المواطنين، إلا أن المجتمعات الخليجية، بسبب الطفرات التنموية الكبيرة، شهدت خلال السنوات الأخيرة مظاهر لسلوكيات اجتماعية وسياسية تدفع باتجاه إعادة صياغة العقد الاجتماعي وبمشاركة مجتمعية فاعلة.

هذه التحولات، إضافة إلى ما شهدته البيئة الدولية من تطورات وسياسات تضغط باتجاه الإصلاح من خلال مبادرات دولية انعكست إيجابا على المشهد السياسي في الخليج العربي، حيث بدأت حالة من الاسترخاء النسبي في موقف الحكومات تجاه مطالب التغيير. وتزامن هذا التحول في الموقف السياسي مع نمو تدريجي للنشاط الحقوقي التطوعي، وهو ما زاد من حالة الالتباس بين الحقوقي والسياسي، وكرر الناشطون الخليجيون المشكلة التي وقع فيها أقرانهم في بقية الدول العربية التي سبقتهم في «تسييس» المطالب الحقوقية، ما تسبب في حالة من الصدام بينهم وبين الحكومات.

لأن المراقب لنشاط الحقوقيين في دول الخليج يلحظ بشكل واضح هيمنة الخطاب السياسي والاقتصار على المطالب السياسية وغياب شبه تام لبقية الحقوق، فيندر أن تجد إشارة في هذا الخطاب لحق المواطن في العمل والرعاية الصحية وحق الفئات الضعيفة في الحماية، وكذلك معاناة العمالة الأجنبية مع كفلائهم وحتى حق «البدون» من المواطنين ممن حرموا هوياتهم للأسباب مختلفة وترتب على ذلك حرمانهم من بقية حقوقهم الأساسية من تعليم وصحة ووظيفة.

الناشطون بالطبع لا يتجاهلون هذه الحقوق من الناحية المبدئية، إلا أنها لا تظهر في خطابهم ولا تحظى بأهمية في نشاطهم الحركي، وذلك لقناعتهم أن المشكلة الكبرى والأكثر أهمية هي الحقوق المدنية والسياسية التي يجب أن لا ينشغلوا عنها بمثل هذه الحقوق... التي يرون تركها للمؤسسات الحقوقية المرخصة.

ولا شك أن هذه الرؤية الاختزالية تعد مأخذا على الناشطين الحقوقيين في دول الخليج؛ فمساعدة مواطن حرم هويته على استردادها وحماية طفلة من عنف يمارس ضدها لا تقلان أهمية عن المطالبة بضمان الحق في التجمع. ولضيق المساحة المخصصة لا نريد هنا أن ندخل في جدل حول أولوية الدفاع عن حق خاص بفرد أو جماعة بعينها، أو الدفاع عن حق عام للمجتمع. المؤكد هو أن خلط السياسي بالحقوقي تسبب في توجس الحكومات من الناشطين والتضييق عليهم، مما انعكس سلبا على المعركة الحقوقية في الخليج.

* عميد كلية الحقوق والعلوم السياسية وأستاذ العلوم السياسية في جامعة الملك سعود، نائب رئيس الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان في المملكة العربية السعودية، عضو الهيئة الدائمة المستقلة لحقوق الإنسان في منظمة التعاون الإسلامي