أيشكل الاهتمام الحقوقي بداية تأسيس لمفاهيم سياسية حركية؟

نعم... من واقع تجربتنا في مصر... زخم الاهتمام الحقوقي يؤسس لمفاهيم سياسية حركية

TT

يوجد خيط رفيع بين النشاط الحقوقي والنشاط السياسي، وفي الكثير من البلدان العربية ودول العالم الثالث يمكن أن تجد صعوبة في التفريق بينهما. ومن النادر اليوم أن تجد التزاما صارما بالعمل الحقوقي بمعزل عن العمل السياسي، على الأقل وفقا لتجارب شهدناها في مصر منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، لأن الكثير من السياسيين من توجهات مختلفة حاولوا استغلال العمل الحقوقي لتنفيذ أغراض سياسية.

لكن مما لا شك فيه أن زخم الاهتمام الحقوقي، عموما، يسهم في كثير من الأحيان في تشكيل بداية تأسيس لمفاهيم سياسية حركية، بشرط أن يكون هناك إدراك للفارق بين النشاط الحقوقي والسياسي.

ولا بد، بشكل جوهري، من التطرق إلى حقيقة تتعلق ببداية العمل الحقوقي؛ فمن المعلوم والمعروف أن مبادئ حقوق الإنسان، المتعلقة بالحقوق المدنية والسياسية والمتعلقة بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمتعلقة بحقوق المرأة والطفل وحقوق المسنين، وكذلك حقوق البيئة، وغيرها، تعد منظومة توافق عليها المجتمع الدولي في إطار إنساني بعد كوارث الحرب العالمية الثانية. وليس فيها أي اختراع لأنها هي المبادئ نفسها التي اتفقت عليها الأديان السماوية والتراث الإنساني من مبادئ وأفكار خاصة في منطقتنا العربية.

وبمضي الوقت، وبوضع الكثير من التشريعات الدولية، أصبح مطلوبا من الحكومات الالتزام بري شجرة حقوق الإنسان، ورعاية كل فرع من فروعها، لكن معلوم لدينا جميعا أنه لن يكون هناك التزام حقيقي بكل ما يسمى «حقوق الإنسان» من الكثير من دول العالم التي تحكم بالاستبداد، خاصة في بلدان الشرق الآسيوي والعالم الثالث في أفريقيا وأميركا اللاتينية. والسبب بسيط، وهو أن مبادئ حقوق الإنسان تتعارض بشكل جوهري مع كثير من نظم الحكم في تلك الدول.

وفي بلاد عربية كثيرة يجري النظر إلى نشاط حقوق الإنسان على أنه محاولة لغزو هذه الدول، وفرض ثقافة غريبة عليها، رغم أن ثقافة حقوق الإنسان من الثقافات الرئيسة في التراث الإنساني العربي. هذا مع وجود بعض الحقائق التي لا بد من الإشارة إليها، مثل استخدام بعض الدول الغربية موضوع الديمقراطية وحقوق الإنسان للتدخل في شؤون العالم العربي، لكن هذا لا يعني أن يكون رد الفعل هو «الكفر» بالديمقراطية وبحقوق الإنسان، لمجرد أنها استخدمت في لعبة سياسية مزدوجة. وأميركا نفسها، على سبيل المثال، لم توقع على اتفاقات كثيرة لحقوق الإنسان.

لكن ما العلاقة بين نشاط جمعيات حقوق الإنسان والحراك سياسي؟ أعتقد أن هذه العلاقة بينهما تكاد تكون مباشرة، رغم أنه في الأساس يفترض أن تكون حركة حقوق الإنسان تناضل من أجل مبادئ عليا، بغض النظر عن الجهة التي تتصدى لها، سواء كانت الحكومة أو المعارضة أو أفراد في المجتمع تتصدى للعنف بكل أشكاله.. تتصدى للتمييز والعنصرية. فهنا يفترض أن تكون حركة حقوق الإنسان مجردة لا صلة لها بالحراك السياسي لا سلبا ولا إيجابا.

ومع ذلك، فإن انتشار حقوق الإنسان والنضال من أجل هذه المبادئ يؤدي إلى حراك سياسي إيجابي إلى الأمام. لكن المفترض أن الدعوة لاحترام حقوق الإنسان لا توجه إلى الحكومات فقط، بل إلى المجتمعات ككل أيضا، خاصة في المجتمعات التي تمارس التمييز بشتى أشكاله. والمفترض أن النشاط الحقوقي يدفع المجتمع، بشكل غير مباشر، لأن يتطور سياسيا واقتصاديا من دون أن يتورط في ممارسة العمل السياسي، وإن كان يؤثر فيه من خلال مطالبات المنظمات الحقوقية للحكومات والأحزاب باحترام حقوق الإنسان والآليات الديمقراطية وغيرها.

لقد أسس العمل الحقوقي في مصر قبل نحو ربع قرن، ولاحظنا طوال هذه المدة محاولات من جانب شخصيات سياسية للانخراط في العمل الحقوقي. وحين ظهر هذا النشاط في دول عربية أخرى، ظهرت الملاحظة نفسها. تمثلت البداية في دخول قوى سياسية على خط جمعيات ومنظمات حقوق الإنسان لاستغلالها في معاركها السياسية بعد السيطرة عليها. هذا حدث بشكل واضح وبشكل أكثر كثافة من جانب ساسة مصريين بالذات.

ومن خلال التجربة العملية في مجال العمل الحقوقي طيلة نحو 25 سنة، جرت محاولات انتهازية من جانب شخصيات سياسية من تيارات مختلفة للتسلل لعضوية مجالس إدارات جمعيات ومنظمات حقوقية لإدارة دفتها وفقا لتوجهات وأغراض تلك التيارات، بعيدا عن العمل الحقوقي المفترض أنه مجرد وبعيد عن الأهواء السياسية والطموحات الشخصية... مثل الرغبة في الاستفادة من التمويل المالي الذي يصل للجمعيات والمنظمات الحقوقية، أو الاستفادة من فرص السفر للخارج وغيرها من الممارسات. وشاركت في محاولات استغلال العمل الحقوقي شخصيات من الكثير من التيارات، منها شخصيات ناصرية ويسارية وإسلامية وليبرالية وغيرها. وخضنا صراعا مريرا في مجلس الأمناء والمجلس التنفيذي في المنظمة المصرية لحقوق الإنسان بسبب محاولات استغلالها لصالح الأغراض السياسية المتباينة.

وختاما أقول إن تخطي الخيط الرفيع الذي يفصل بين النشاط الحقوقي والنشاط السياسي أمر خطير، وما زال من الصعب أن تجد التزاما صارما بالفصل بينهما إلا فيما ندر، وإن كان كل منهما سيظل يؤثر في الآخر.

* مدير مركز الدراسات والمعلومات القانونية لحقوق الإنسان - القاهرة