هل تركيا مؤهّلة للعب دور فاعل في منطقة الخليج؟

نعم .. تركيا أكبر وأهم من أن تُتَجاهل في الشرق الأوسط

TT

مع أن فكرة «صفر مشاكل» بين تركيا وجيرانها عبرت عن الحقيقة جزئيا، فإنها لم تثمر عن علاقات جيدة مع أي من جيرانها بل غدت صيغةً مبتذلة ومملة. وحقا، هناك فارق كبير بين الشعبية التي تمتعت بها تركيا في كل من الشرق والغرب خلال العقد الماضي وبين وضعها الحالي.

قبل بضع سنوات كان يُنظر إلى تركيا على أنها «نجم صاعد». وكان هذا صحيح ليس على المستوى الإقليمي فحسب، بل رأى كثيرون في تركيا قدرات للعب دور عالمي. وبينما نال حزب العدالة والتنمية استحسانا كبيرا من حلفاء تركيا الغربيين، كان جيران تركيا من العالم العربي والإسلامي سعداء للغاية بسبب المصلحة المشتركة التي عبر عنها حكام أنقرة المحافظون الجدد وتعاطفهم غير المسبوق مع القيم الإسلامية.

لكن تلك الصورة المشرقة أخذت تتغير مع مَقدم العقد الجديد. أتت أولا الأزمة مع إسرائيل وتدهوُر العلاقات الثنائية بين البلدين إلى أدنى مستوى. كما أدّت اعتراضات تركيا على أسلوب حكم رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي لإضافة العراق إلى قائمة الدول المتوترة علاقاتها مع تركيا. ثم أخذت الانتقادات تُوجّه إلى حكومة «العدالة والتنمية» لاتباعها سياساتٍ ذات مسحة دينية. ثم اكتسب ذلك الانتقاد زخما مع انطلاق شرارة «الربيع العربي»، إذ أدى تسرّع الحكومة التركية في هدم الجسور مع نظام بشار الأسد ودعم المعارضة إلى حرب مُميتة على حدود تركيا وتوتّر علاقات أنقرة مع طهران وموسكو اللتين تدعمان الأسد. وأخيرا، وبسبب معارضة تركيا العنيفة لما وصفته بالانقلاب العسكري الذي أطاح بحكومة الإخوان المسلمين عن السلطة، تدنّت علاقات أنقرة الدبلوماسية مع الإدارة الجديدة في القاهرة أيضا.

لقد تصدّرت تركيا قائمة أكثر الدول شعبيةً في استطلاعي الرأي اللذين أجرتهما مؤسسة تركيا للدراسات الاقتصادية والاجتماعية في 16 بلدا بمنطقة الشرق الأوسط عامي 2011 و2012. ولكن خلال استطلاع المؤسسة ذاتها عام 2013 الذي نُشرت نتائجه في 3 ديسمبر (كانون الأول) الحالي أظهر تدني شعبية تركيا من 78 في المائة إلى 59 في المائة. وفي ظل هذه الصورة يغري المرء القول إن تركيا ما عادت قادرة على لعب دورٍ نشط في المنطقة كما كانت في الماضي. لكن ذلك يعني أيضا القفز إلى خلاصات متسرّعة. وذلك للأسباب التالية:

أولا، تركيا قوة أكبر وأكثر تأثيرا من أن تُتجاهل. وبصرف النظر عن مدى توتر علاقاتها مع جيرانها في المنطقة، ما قد يجعل تركيا تبدو غير ذات صلة، لا يستطيع أي بلد في المنطقة أن يقول بصدق إنه لا يأخذ موقف تركيا في الاعتبار عند وضع سياساته. ثم إن موقع تركيا الجغرافي الاستراتيجي ودورها في التطورات من العراق إلى سوريا ومن أفغانستان إلى مصر، يجعل منها قوة يُحسب لها حساب. ومع أن استطلاعات الرأي المشار إليها سابقا أظهرت تدنيا في شعبية تركيا بين شعوب الشرق الأوسط، فهي لم توضح تدنيا مماثلا في إدراك أهمية تركيا كقوة إقليمية. فقد قال 60 في المائة ممن استُطلعت آراؤهم إنهم يؤيدون لعب تركيا دورا أكبر، بينما قال 64 في المائة إن تأثير تركيا آخذ في التزايد عاما بعد عام. بل رأى واحد من كل اثنين إن تركيا تصلح نموذجا للشرق الأوسط.

ثانيا إن صورة تركيا السلبية الحالية في المنطقة لن تدوم كذلك بالضرورة. وذات يوم قال لي إبراهيم أوسلو، رئيس المؤسسة التي تجري استطلاعات منتظمة لحزب العدالة والتنمية إن «أحد أوجه قوة هذا الحزب.. مرونته، إذ يستطيع الحزب تغيير مساره إذا لاحظ أمرا لا يسير في الاتجاه الصحيح». ومن ناحية ثانية، أوضح استطلاع للرأي أجرته جامعة قدير هاس في إسطنبول انخفاضا كبيرا في رضا الشعب التركي على سياسة حزب العدالة والتنمية الخارجية. وأظهر الاستطلاع الذي نُشرت نتائجه في 4 ديسمبر انخفاض نسبة مَن يعتقدون بنجاح سياسة الحكومة الخارجية من نسبة 34 في المائة عام 2012 إلى 25.1 في المائة في عام 2013. وثمة تراجع مماثل على رضا الشعب على سياسات الحزب الخاصة بالشرق الأوسط، فلقد أيد نحو نصف المُستطلعين اعتراف تركيا بالحكم الجديد في القاهرة.

يدور في تركيا حاليا حوار من أجل إعادة صياغة سياسة تركيا الخارجية. وحقا، بدأت تركيا الابتعاد عن المجموعات الراديكالية في سوريا. وعلى الرغم من استبعادها من المفاوضات الدولية التي أدت إلى عقد الاتفاقية المرحلية مع طهران بشأن برنامجها النووي المثير للجدل، هناك حوارٌ متجدد بين طهران وأنقرة، إذ التقى وزيرا خارجية البلدين على هامش الاجتماعات الدولية. وخفّفت زيارة وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري إلى أنقرة والتي تلتها زيارة نظيره أحمد داود أوغلو إلى بغداد، من التوتر بين البلدين. وعلى الرغم من أن الحرب الكلامية بين رئيسي الحكومتين رجب طيب إردوغان ونوري المالكي وصلت حدود الإهانات المتبادلة، فإن هناك خططا الآن تمهيدا لزيارة إردوغان إلى بغداد خلال يناير (كانون الثاني).

أخيرا، وبينما قد نجد بعض الاستياء وسط الشعب التركي من طريقة أداء الحكومة سياساتها الخاصة بالشرق الأوسط، فإن توقع مواصلة تركيا لعب دور إقليمي مهم ما زال عاليا. فحسب استطلاع جامعة قدير هاس يعتقد الأتراك أن الولايات المتحدة هي اللاعب الرئيس في تحديد مستقبل الشرق الأوسط بنسبة 33.3 في المائة، تليها تركيا في المرتبة الثانية بنسبة 23.8 في المائة.

وبالتالي، في حين يمكن أن تعدّل الحكومة التركية سياساتها في المنطقة، فهذا لا يعني تراجعها إلى زاويتها. دور تركيا الكثيف في المنطقة سيستمر، وستحصل الحكومة على الدعم المتواصل من الشعب وبصورة أكبر إن هي أجرت بعض التعديلات المطلوبة.

* إعلامية تركية وكاتبة عمود في صحيفة «حرييت» اليومية بالإنجليزية