هل تركيا مؤهّلة للعب دور فاعل في منطقة الخليج؟

لا .. تركيا اليوم معزولة وعاجزة ويستحيل تجديد دورها

TT

مثّلت تركيا نموذجا للصعود الصاروخي لدور بلد في محيطه الإقليمي والدولي خلال سنوات قليلة، وفي الوقت نفسه نموذجا لانهيار دراماتيكي لهذا الدور خلال أقل من ثلاث سنوات. لقد انتقلت تركيا في ظل حزب العدالة والتنمية من بلد أدار الظهر منذ ثمانين سنة لعلاقاته المشرقية والعربية والإسلامية، وارتضى أن يكون منذ الحرب العالمية الثانية أداة طيعة بيد المعسكر الغربي ورأس حربته إسرائيل. جاء حزب العدالة والتنمية برؤية أساسها «العمق الاستراتيجي» التي وضعها أحمد داود أوغلو الذي أصبح منذ عام 2009، ولا يزال، وزيرا للخارجية. وقوام هذه الاستراتيجية الانفتاح على كل المحيطات الإقليمية لتركيا من البلقان إلى الشرق الأوسط إلى القوقاز. وجاءت الدول العربية والإسلامية القريبة المحاذية لتركيا والبعيدة عنها في قلب هذه الاستراتيجية. وبناءً عليها جاءت سياسة «صفر مشاكل» لتطلق المارد التركي في علاقات ممتازة مع كل العالم العربي دون استثناء، ومع إيران، وصولا إلى أرمينيا وقبرص وإسرائيل.

ولقد وظّفت تركيا هذه السياسة. من جهة، من أجل توسيع علاقاتها الاقتصادية مع الجميع وصولا إلى التكامل الاقتصادي مع العراق وسوريا والاستثمارات المتبادلة مع دول الخليج. ومن جهة ثانية من أجل تعزيز الدور عبر آليات متعدّدة أهمها الدور الوسيط في المشاكل بين الدول، بل حتى بين متنازعين داخل هذا البلد أو ذاك. واكتسبت تركيا بهذه السياسات ثقة واحترام الرأي العام فباتت نموذجا للبلد الناجح اقتصاديا وسياسيا. غير أن الحراك الذي شهده الشارع العربي وسمّي بـ«الربيع العربي»، الذي رحّبت به تركيا، كان بداية الانقلاب في النظرة التركية على سياستها، وبالتالي دورها وموقعها.

1- تخلت تركيا عن سياسة المسافة الواحدة من كل الدول، وانحازت إلى دول ووقفت ضد دول أخرى. واتخذت موقفا منحازا إلى جماعات بعينها ضد أخرى داخل كل بلد. ومن ثم باتت تعتبر نفسها جزءا من الصراعات الداخلية في كل بلد، مما أفقدها صورة البلد المحايد.

2- غلّبت تركيا ميولها الآيديولوجية في دعم جماعة الإخوان المسلمين في دول «الربيع العربي» كما في دول لم تشهد هذا الحراك، كدول الخليج، مما أثار حساسية من هذا الدعم والتدخل في منطقة الخليج، ومعها الأردن، ففقدت العلاقات الوثيقة مع هذه الدول.

3- ما زاد من الشكوك والنفور من الدور التركي أن حزب العدالة والتنمية، مستفيدا من الاضطرابات في سوريا وفي مصر وليبيا وتونس، تراءى له أن الفرصة باتت مواتية لكسر الشراكة في الأدوار الإقليمية مع إيران والمملكة العربية السعودية وحتى مصر، وتاليا التفرّد بقيادة شرق أوسط جديد ترسم أنقرة ملامحه وتقوده بنفسها، على ما ذكر أحمد داود أوغلو في خطبته الشهيرة في البرلمان التركي في 27 أبريل (نيسان) 2012، ووفقا لنزعة عثمانية لم يخفها لا رئيس الحكومة رجب طيب إردوغان ولا وزير خارجيته داود أوغلو، وهو ما يثير حساسية كل العرب وغير العرب في إمكانية عودة الاستعمار العثماني إلى المنطقة العربية.

4- لقد أخطأت تركيا في تقييم المرحلة وقراءة الوقائع، فلم تتوقع استمرار الثبات في الموقف الروسي والصيني من سوريا، ولا في تلمس الاعتبارات التي تتحكم بالموقف الأميركي من المتغيرات فيها، ولا سيما الموقف من المنظمات المرتبطة بتنظيم القاعدة ومن مصر وفي العلاقة مع إيران.

5- انعكست السياسات التركية في المنطقة خسائر اقتصادية لأنقرة وانتقال الاحتقانات الإثنية والمذهبية والسياسية إلى الداخل التركي.

وهكذا وجدت تركيا نفسها بعد ثلاث سنوات على «الربيع العربي»:

1- بلدا معزولا فاقدا لصداقة كل الدول التي أقام معها علاقات تعاون وتكامل. فقد خسر سوريا والعراق وإيران من ناحية، وخسر الأردن والسعودية ودول الخليج باستثناء قطر من ناحية. لكن خسارته مصر كانت الأهم مع انكسار الركيزة الاستراتيجية الثانية لـ«المشروع العثماني - الإخواني» لتركيا. كما أن علاقاته مع إسرائيل بقيت متوترة ولم تتحسن، بينما العلاقات مع روسيا بلغت مستويات من التوتر فضلا عن التوترات المتواصلة مع واشنطن في أكثر من ملف ولا سيما العلاقة مع إسرائيل والموقف من دعم أنقرة للجماعات الأصولية وطريقة تعامل إردوغان غير الديمقراطية مع انتفاضة ميدان تقسيم وحديقة غيزي. وفي ظل فقدان تركيا كل هذه الصداقات، من الطبيعي أن تفتقد القدرة على القيام بدور مؤثر في ملفات المنطقة إلا من زاوية المشاغبة والعرقلة.

2- بلدا عاجزا؛ فالمتغيرات الميدانية في سوريا وضعت تركيا أمام نشوء أخطار غير متوقعة، من زاوية نظرتها هي، على الأمن القومي التركي، وفي مقدمها نشوء «كيانية» ما للأكراد في سوريا على امتداد مسافة طويلة من الحدود مع تركيا. كذلك فإن سيطرة مقاتلي المنظمات الأصولية على ما تبقى من حدود مع سوريا أفقد تركيا تأثيرها السياسي والعسكري في الداخل السوري، أي في الملف الأكثر أهمية لتركيا. ولعل رغبة تركيا في التعويض عن ذلك من خلال مدّ جسور تعاون مع أكراد المنطقة، ولا سيما أكراد شمال العراق، لن يعوض لها خسارتها في ظل «الفوبيا» الكردية التي لا تزال تتحكم بالنظرة التركية إلى مستقبل أكراد المنطقة. خسارة أوراق التأثير الإقليمية هذه أدخلت الحركة التركية في عجز أقرب إلى الشلل.

3- بلدا لا ثقة فيه. لعل الخسارة الأكبر لتركيا، أن عودتها إلى المنطقة، بعد غياب ثمانية عقود، لم تدم طويلا والثقة التي عمل الجميع في المنطقة على بنائها معها خلال سنوات قليلة انهارت، مما يصعب استعادتها في المدى المنظور. إن كل ما يمكن أن تفعله تركيا اليوم هو أن تقلل من حجم خسائرها من جراء السياسات التي انتهجتها. وإذا كان من استدارة تركية ما، أو إعادة تموضع، في المرحلة الحالية والمقبلة لتعويض ما فات، فهذا يحتاج إلى وقت لتبيان جديته من عدمها. وفي جميع الأحوال، فإن أي علاقات جديدة بين تركيا وخصومها لا يمكن أن تقوم إلا على أسس جديدة قوامها الندّية المطلقة والمنفعة الوطنية، بعيدا عن شعارات من قبيل «وحدة مصير» شعوب المنطقة أو «الأخوة الإسلامية». ومهما فعل قادة حزب العدالة والتنمية من محاولات لترميم العلاقات التي تهشمت وتغيير السياسات التي اتبعت، فإنها لن تستقيم إلا بتنحّي الذين رسموا السياسة الخارجية التركية وأداروها في الثلاث سنوات الأخيرة وأوصلوا تركيا إلى وضع البلد المعزول والعاجز، عن سدة المسؤولية.

* أكاديمي وباحث لبناني متخصص بشؤون تركيا، له مقالات في صحيفة «السفير»