وهل تدعم القوى الغربية وعلى رأسها أميركا مثل هذا الدور؟

لا .. الغرب لا يقبل باستغناء تركيا عنه.. وتحولها إلى «يابان جديدة»

TT

لا شك بأن تركيا «الإردوغانية» تختلف جذريا عما سبقها من عهود وحكومات تركية منذ إسقاط الخلافة العثمانية (1299-1923م) على يد مصطفى كمال «أتاتورك».

يومذاك خلع ذلك الزعيم مدعوما بالجيش وقوى قومية تركية الرداء الديني الإسلامي عن بلاده، واتجه بها غربا. هذه المرة الاختلاف ليس برغبة السيطرة والهيمنة ونشر الدين، بل للالتحاق بركب التقدم والحضارة والابتعاد عن مصادر التخلّف وأدواته الرجعية «الشرقية».

منذ ذلك الوقت، أي عام 1923، وتركيا تحاول إلى حد الاستجداء إقناع الدول الغربية أنها كلّها، وليس إسطنبول وحدها، تنتمي إلى «الحضارة» الغربية. وبالتالي، فإنها تأمل تحقيق حلمها بالانضمام إلى المجموعة الأوروبية. لكن هذه الأخيرة تمنّعت كثيرا لأسباب عديدة، لعل من أهمها أن جلّ تركيا آسيوي وليس أوروبيا، وأن ديمقراطيتها شكلية وليست فعلية، وأن تعامل الدولة التركية مع الأقليات كالأكراد يتّسم بالقسوة والإجحاف ومتطلّبات أخرى لم تتمكّن تركيا من تلبيتها. بل إنها في أحيان أثبتت عدم جدارتها بعضوية المجموعة الأوروبية، ومثال ذلك تولّي أحزاب دينية السلطة (حزب الرفاه وحزب الفضيلة وحزب العدالة والتنمية)، وهو ما يتنافى مع المعايير الأوروبية التي من أهمّها علمانية الدولة وذلك بفصل الدين عن الحكم. وإذا كان للأوروبيين مبرّراتهم بالتحفّظ على عضوية تركيا للمجموعة الأوروبية، فإن هذا الصدّ المستمر قد يكون هو ما دفع الأتراك إلى التفتيش في أوراق تاريخهم القديمة والاتجاه شرقا حيث الثروة و«الحضارة الإسمنتية» وقلة السكان والاعتماد على جهد وإنتاج الغَير وخَلط الدين بالسياسة، بل والاتجاه نحو التشدّد الديني.

كل هذه العوامل حفّزت حزب العدالة والتنمية، الإسلامي الاتجاه، على التوجّه إلى الإرث العثماني لينافس الغربيين على ثروات وأسواق تدرّ ذهبا. وهذا ما حدث، إذ بدأت حكومات رجب طيب إردوغان بمخاطبة العواطف العربية من خلال التحدّث علنا عن حق الشعب الفلسطيني بدولته المستقلة وفقا لقرارات الشرعية الدولية، ومن خلال الاشتباك اللفظي (مواجهة إردوغان وبيريس) والاشتباك المادي (السفينة مَرمَرة).

هذه التصرّفات وغيرها مهّدت الطريق لعودة «العثمانيين الجُدد» إلى الميراث السابق الذي فقدوه فقيرا ليعودوا إليه وهو من أكثر بقاع العالم ثراء. وبسبب هذه العودة وأسباب أخرى، لم تُكسِب تركيا لفت انتباه الغرب فحسب، بل إنها حقّقت تطوّرا اقتصاديا باهرا. وتكفي الإشارة هنا إلى انخفاض التضخم من 55 في المائة إلى 10 في المائة، ومن نمو سلبي بلغ 9.5 في المائة إلى نمو إيجابي معاكس بلغ 10 في المائة، بل إن الديون التي كانت تثقل كاهل الدولة التركية أصبحت مُجرّد ذكريات.

وليس سرّا أن الأسواق والاستثمارات والسياحة الخليجية العربية لعبت دورا كبيرا في إنهاض الوضع الاقتصادي التركي من كبوته. ويكفي أن نشير هنا إلى أن المنتجات الزراعية والصناعية وشركات البناء والتعمير التركية قد أصبح لها حضور ملحوظ في معظم البلاد العربية، بما في ذلك العراق الذي يعتمد على العمالة والمنتجات والشركات التركية أكثر بكثير من اعتماده على نظيراتها الإيرانية.

غير أن هذا «الاقتحام» التركي يبدو وكأنه سيشهد تراجعا كبيرا، وذلك لعدة أسباب، لعل من أهمها:

أولا، تورّط رئيس الوزراء إردوغان بالصراعات والخلافات العربية الداخلية. فهو كان على علاقة طيبة مع الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك لكنه سرعان ما انقلب عليه وأيد الانتفاضة التي أطاحت بنظامه. ثم أطاحت انتفاضة 30 يونيو (حزيران) بمساندة القوات المسلحة بالرئيس «الإخواني» السابق محمد مرسي، ووقف إردوغان ضد إطاحة مرسي بشكل سافر وحادٍّ مما أدى إلى سحب السفير المصري وطرد السفير التركي. وإذا كان هذا ينسجم نسبيا مع المواقف الغربية فهو يتناقض تماما مع المواقف الخليجية التي تكاد تجمع على تأييد نظام ما بعد الحكم «الإخواني». وهذا بالتأكيد يشير إلى انقياد إردوغان وراء عواطفه الحزبية «الإخوانية».

ثانيا، لا شك في أن الأميركيين والأوروبيين لا يريدون أن تكون تركيا جزءا أصيلا من الغرب لكنهم في الوقت نفسه، لا يريدونها أن تستغني عنهم. ولأن الاستقلال الاقتصادي يهيّئ ويضمن استقلالا سياسيا لا يمكن للأميركيين وحلفائهم الأوروبيين أن يسمحوا لتركيا أو غيرها أن تصبح «يابان أخرى» تُغرق الأسواق التي ما تزال حكرا على الغربيين بمنتجات أقرب وأرخص، ولبلادها جاذبية عاطفية دينية.

ثالثا، كان الفساد بوجوهه المتعدّدة من أهم أسباب تدهور الأوضاع التركية في حكومات ما قبل حكم حزب العدالة والتنمية، نجحت حكومات إردوغان اقتصاديا بسبب نظافتها، لكن أواخر عام 2013 كشفت فضائح مالية طالت عدة وزراء، وأدّت إلى تشكيل حكومة جديدة برئاسة إردوغان على الرغم من مطالبة بعض أعضاء له بالاستقالة تحملا للمسؤولية السياسية.

خلاصة ما سبق، نقول إن الحلم التركي بالاستغناء عن الغَرب بالاتجاه شرقا لن يتحقّق لأن القوى الغربية الكبرى المهيمنة سياسيا لن تسمح لتركيا، وبالذات «نموذجها العثماني»، أن يستعيد كنزا فقده فقيرا قبل 90 سنة ليعود إليه وهو نموذج للثراء والشهيّة المفتوحة للاستهلاك وبأشد الحاجة للعمالة الأجنبية والأمن. وبالأخص أن الغرب، وريث العهد العثماني القديم، يستطيع أن يلبّي للخليجيين العرب متطلّباتهم بشكل مباشر أو عن طريق دول وشعوب ليس لها طموحات تتعدّى تصدير العمالة وبعض السلع.

* محلّل ومعلّق وباحث سياسي كويتي.