هل بقي للشركات العائلية مكان في سوق الأعمال الخليجية اليوم ؟

لا.. تحوّل الشركات من عائلية إلى عامة بات ضرورة استراتيجية لضمان الاستدامة

TT

على الرغم من الانتقادات والمخاطر التي تحيط بها من كل جانب، فإن «الشركات العائلية» تبقى من أهم دعائم الاقتصاد، إذ تشكل النسبة الكبرى من إجمالي الشركات، والمسؤولة عن توظيف ما يقرب من 75 في المائة من القوى العاملة. ففي منطقة الاتحاد الأوروبي تتراوح نسبة الشركات العائلية ما بين 70 و94 في المائة من إجمالي الشركات العاملة بها، وتسهم بما نسبته 70 في المائة من الناتج القومي، أما في السعودية فترتفع نسبتها لتصل إلى95 في المائة، وتسهم في ما يقرب من 50 في المائة من الناتج المحلي غير النفطي، وهي نسبة مرتفعة تعكس أهميتها في الاقتصاد السعودي. والأمر نفسه ينطبق أيضا على دول الخليج الأخرى.

غالبية ملاك الشركات العائلية تفضل بقاء صفة شركاتهم القانونية من دون تغيير لأسباب مرتبطة بالإدارة والربحية والسيطرة، حيث القدرة الأكبر على السيطرة، والتصرف الإداري والمالي، مع سرعة اتخاذ القرارات بعيدا عن اللوائح الرسمية التي تسيطر، في الغالب، على عمليات الشركات المساهمة. وما زالت «الشركات العائلية» مسيطرة على الاقتصادات الخليجية، والسعودية بشكل خاص، إلا أن قوتها مرتبطة دائما ببقاء المؤسسين المتحكمين بها وفق فلسفتهم الإدارية الأحادية، التي تعتمد السيطرة والمركزية، والدقة في حساب التكاليف.

لكن، هنا لا بد من القول إنه قد لا يدرك كثيرون من مؤسسي الشركات العائلية خطورة المستقبل، وإمكانية تفكك شركاتهم بعد الجيل الثاني أو ربما الثالث على أبعد تقدير، إضافة إلى الإشكالات العائلية التي ربما تحدث لأسباب مرتبطة بتوزيعات التركة، خاصة مع تعدد الزوجات، وكثرة الأبناء الذين قد يختلفون في ما بينهم على بقاء الشركة. ويسجل التاريخ تدخل الحكومة في ترتيب وضعية بعض الشركات العائلية بعد وفاة مؤسسيها، حفاظا على سلامتها، وسلامة الاقتصاد الوطني. ويسجل التاريخ أيضا تدخل الحكومة من أجل فرض صفة «الشركة المساهمة» على بعض الشركات العائلية لأسباب مرتبطة بحماية الاقتصاد، والاستدامة، مما يؤكد أهمية الشركات العائلية وعظم تأثيرها على الاقتصادات الوطنية.

ولا تقتصر تداعيات النزاعات العائلية على الشركاء فحسب، بل تتجاوزهم إلى التأثير السلبي على الاقتصاد، خاصة في الشركات العائلية المالية، ذات الالتزامات المتشعبة. إذ تشير بعض التقارير المعلنة إلى وجود أرصدة مالية مجمدة في بنوك محلية يفوق حجمها 19 مليار ريال، لأسباب مرتبطة بخلافات في شركات عائلية سعودية، إضافة إلى أصول عقارية تتجاوز قيمتها السوقية 30 مليار ريال.

الأكيد أن «الشركات العائلية» من أكثر الشركات ربحية بوجود المؤسس، إلا أن ذلك لا ينفي القصور التنظيمي الذي يعتريها، وافتقارها إلى آلية فض المنازعات، والتحوّل، والتخارج، بل وربما ثقافة التصويت في اتخاذ القرار المرجح. ثم إن تركيز الشركات العائلية على تخصصها التجاري أو الصناعي يجعلها محصورة في إطار ضيق لا تستطيع الخروج منه، مما يؤثر سلبا في نموها المستقبلي.

وبالتالي، دفعت مخاطر المستقبل بعض مؤسسي الشركات العائلية للبحث عن وسيلة مناسبة تتيح لهم التحول إلى شركات مساهمة مع المحافظة على حصص الأغلبية المؤثرة فيها. ونجح أولئك المؤسسون في التحول إلى شركات مساهمة حققت نجاحا يفوق بكثير النجاح الذي حققته شركاتهم العائلية. ولعل «مصرف الراجحي» ومجموعة «الزامل» وشركة «جرير» من نماذج التحول اللافت في السوق السعودية، وهو التحوّل الذي أسهم في نمو تلك الشركات، وزيادة أصولها وأرباح المؤسسين، إضافة إلى توسيع الملكية على شريحة واسعة من أقربائهم، بعدما كانت حكرا على الدائرة الضيقة في الأسرة، هذا بخلاف ما حققته تلك الشركات من قيمة مضافة للاقتصاد الوطني.

وعليه، أجزم بأن تحول الشركات العائلية إلى شركات عامة لم يعد خيارا مرجحا، بل بات ضرورة استراتيجية لضمان الاستدامة والبقاء. فالدراسات العالمية تشير إلى أن ما يقرب من 33 في المائة من الشركات العائلية يصل إلى الجيل الثاني، و10 في المائة يصل إلى الجيل الثالث، و4 في المائة فقط يصل إلى الجيل الرابع، مما يعني استحالة بقاء العدد الأكبر من الشركات العائلية بعد رحيل الجيل الثاني. كذلك تواجه الشركات العائلية تحديات متنوعة بدءا من تحدي البقاء، ومواجهة المنافسة الشرسة من الشركات العالمية، والتكتلات الاقتصادية، وإلزامية تطبيق الحوكمة، إضافة إلى تطورات التقنية وثورة المعلومات والمتغيرات المتسارعة التي قد تفوق قدرة الشركات العائلية على مجاراتها. وفي المقابل، نجد أن التحول إلى الشركات العامة يساعد على الاستدامة وزيادة القيمة المضافة للملاك، والاقتصاد على حد سواء، إضافة إلى تعظيم العائد على الاستثمار، وحقوق المساهمين، ورفع كفاءة الأداء والإنتاج.

لا خلاف البتة على حجم المكاسب التي سيجنيها مُلاّك الشركات العائلية بتحويل شركاتهم إلى شركات عامة، غير أن الثقافة السائدة في قطاع الشركات العائلية تحجب أحيانا الرؤية الاستراتيجية الحصيفة عن أعين ملاكها، وهذا أمر يحتاج إلى معالجة وتحفيز من قبل الحكومات والهيئات الاقتصادية. إن ضمان استمرارية الشركات العائلية يصب في مصلحة الاقتصاد، لكن على جانب من الأهمية تهيئة الظروف المناسبة لضمان تحول الشركات العائلية إلى شركات مساهمة، أو حملها على الاندماج مع شركات مساهمة قائمة وبما يحقق مصلحة ملاك الشركتين، أو إعادة هيكلتها وفرض تطبيق الحوكمة عليها، وفي مقدّمها الفصل بين الملكية والإدارة، ووضع آلية دقيقة للتخارج، وحل المنازعات، وبما يضمن استمرارية الشركة، وتجنيبها مخاطر الانهيار.

* باحث ومحلل اقتصادي سعودي