هل يجوز التحدّث عن «أزمة طائفية» في منطقة الخليج؟

نعم .. لم يسبق أن برزت المسألة الطائفية كما تبرز اليوم

TT

دارس الاتجاهات الفكرية في منطقة الخليج سيلحظ حجم المسألة الطائفية في الواقع الاجتماعي، فالمنطقة تضم ثلاث طوائف رئيسة هي: السنة، والشيعة الذين ينتشرون في كل دول المنطقة، ثم الإباضية الذين يتركّز وجودهم في سلطنة عُمان.

إلى عهد قريب لم تكن المسألة الطائفية واضحة كما هي اليوم، فقد كان الخلاف بين أتباع المذاهب أو الطوائف لا يتجاوز ممارسة الشعائر الخاصة بكل مذهب، بل كانت بعض الدول، كالبحرين، تشهد تداخلاً في العلاقات الاجتماعية بين أتباع المذاهب كالمشاركة في الحياة العامة والمصاهرة والعمل التجاري وغيرها من صور العلاقات الاجتماعية، لكن الوضع تغير بعد ذلك وبدأت المسألة الطائفية واضحة في بعض الدول، بينما تتراجع في دول أخرى وفقا لحجم الطائفة وواقعها الاجتماعي. وإلى عهد قريب كان السنة والشيعة هم من «يتواجهون» في المسألة الطائفية، بينما كان الإباضية خارج منطقة المواجهة، إذ عاشت سلطنة عُمان واقعاً مختلفاً تتعايش فيه مختلف الطوائف أو المذاهب، لكن يبدو أن هناك محاولات لجر الإباضية لهذا المعترك. والواقع أننا لا يمكن أن نغفل جملة أسباب للمسألة الطائفية، من بينها البعد التاريخي للمسألة، التي تضرب بجذورها في عمق التاريخ الإسلامي، ولقد ترسخت هذه المسألة بسبب الصراع الذي مرّت به هذه الطوائف أو المذاهب في بعض مراحل التاريخ. وهو في الواقع صراع سياسي تلبّس الجانب المذهبي أو الطائفي. كما أن العزلة «الشعورية» التي يحملها كل طرف تجاه الآخر تجعل العلاقات تبدو، حتى في أحسن حالها، غير منطلقة من واقع حقيقي، بل هي أقرب إلى مفهوم التسامح، وهو مفهوم يفرض أن هناك من يسامح، وآخر يستحق المسامحة، وليس مفهوم التعايش والقبول والمصارحة بالموقف. وهذا ما راكم جملة من العلاقات الهشة بين الطرفين سريعا ما تتفجر لأي سبب.

وإذا كانت السياسة سبباً تاريخياً في المسألة الطائفية، فإنها ما زالت ممتدة عبر الزمن تلقي بثقلها في الحاضر، فاختلاف الموقف السياسي يدفع بكل طرف للتخندق حول الذات والدفاع عنها وتحميل الآخر «الحقد الطائفي». من الأمثلة على ذلك الموقف مما يحدث في البحرين وسوريا واليمن. ولقد أدى الموقف السياسي الرسمي في الدول التي تعيش حالة من الاضطراب الطائفي إلى بروز هذه الظاهرة، ولعل مما ساعد على بروز المسألة الطائفية أنها استخدمت الوسائل الحديثة بكثافة، فيكفى جولة في وسائل التواصل الاجتماعي كـ«تويتر» و«فيسبوك» و«يوتيوب» للكشف عن حجم هذه المسألة. فأثناء كتابة هذا المقال وضعت ثلاث كلمات على موقع «يوتيوب»، وهو موقع مصور - كما يعلم الجميع - وكانت النتيجة كالتالي: السنّة 189000 مشهد، الشيعة 71500 مشهد، الإباضية 11000 مشهد، هذا من دون استخدام مفردات أخرى تدل على هذه الكلمات، والغالبية العظمى لمحتوى هذه المشاهد هي طعن في الآخر، أما لو جرى استخدام مواقع التواصل الأخرى فسنجد ملايين العبارات التي تحمل موقفاً سلبياً من الآخر. وإذا كانت أسباب الخلاف و«نقائص» كل طرف محصورة قديماً بين أهل الاختصاص أو في بطون الكتب، فإنها اليوم أصبحت بفضل وسائل التواصل الاجتماعي متاحة لـ«العامة»، وهو ما رسّخ الخلاف وباعد الشقة بين الأطراف. ولعل من أبرز ما في المسألة الطائفية أن خطاب الخلاف صار مدعّماً بالصوت والصورة والأدلة التي تثبت «أخطاء» الطرف الآخر، بأسلوب يسعى للحشد والإثارة أكثر مما يسعى لبيان الحقيقة العلمية، وأصبحت الرموز الخاصة بكل طائفة أو مذهب هدفاً توجه إليه السهام في محاولة لهدم «مشروعية» ذلك المذهب.

إن الواقع يشير إلى أن المسألة الطائفية تزداد اتساعاً يوماً بين يوم، وتتغذى على وقائع تمرّ بها المنطقة داخلياً وخارجياً مما ينذر بتأزم هذه المسألة. وما لم تبادر القوى المعتدلة في كل طرف إلى لجم المواجهة فإن حالة التصعيد ستستمر.

إن إشكالية المسألة الطائفية لا يمكن حلها بـ«هدم» الآخر، وإنما بالإقرار بالاختلاف، وبحق الآخر في ذلك، إذ لا وسيلة لتغيير موقفه أو رأيه إلا بالحوار والمناقشة التي تبحث عن الحقيقة لا عن الغلبة، كما أن سيادة مفاهيم مثل العدالة والحقوق المتساوية والمواطنة يمكن أن تسهم في تخفيف حالة المواجهة بين الطوائف أو المذاهب تمهيداً لبناء مجتمعات تسع الجميع. إن مفهوم «المواطنة» من أهم هذه المفاهيم، فهو قائم على تغييب أسباب الاختلاف العرقي أو المذهبي أو الجهوي، وإعلاء شأن المؤاخاة في المجتمع الواحد من دون تهميش أو إلغاء، مع احتفاظ كل طرف بحقه في ممارسة ما يؤمن به في ظل قانون يحفظ للمجتمع كيانه وتماسكه.

* أستاذ جامعي من الإمارات