هل يجوز التحدّث عن «أزمة طائفية» في منطقة الخليج؟

لا .. فيها استقطابات اجتماعية.. لبعض أشكالها أبعاد طائفية

TT

لا تأتي المشكلة الطائفية بمستوى أو بشكل واحد. فهي في أقصاها وأعنفها تأخذ شكل الحروب الأهلية التي اجتاحت وتجتاح الكثير من دول العالم في آسيا (الهند وباكستان وأفغانستان) وأوروبا (يوغوسلافيا القديمة وآيرلندا...) وأفريقيا (نيجيريا....) وفي الوطن العربي (لبنان والعراق وسوريا...)، وهي حروب تأكل الأخضر واليابس وتبقى في نفوس الناس لأجيال قد لا تمحى دون معالجات حقيقية في الممارسة والشعور. وهي في بعضها، أو في أحد مستوياتها، قد تأتي على شكل ممارسات مؤسساتية أو إدارية ومواقف واتجاهات اجتماعية كنتيجة لتعبئة معلنة وغير معلنة، وقد تكون غير مسيسة أو من ساسة وجماعات سياسية ودعاة دين أو من أفراد أو أطراف نحو فئة دينية أو مذهبية بقصد الإضرار بمصالح فئة دينية أو مذهبية من الأفراد وحصصهم في المجتمع، أو تأتي على شكل نعوت تقلل من موقع فئة دينية من المجتمع أو تهين طقوسها وشعائرها الدينية أو أن تحد من حرية ممارستها لشعائرها الدينية.

وسواءً كان من يلعبها ساسة أو دعاة أو أي فئة أو جماعة أخرى، فإنها لعبة غير محسوبة العواقب في تبعاتها وفي قدرة أي من الأطراف الفاعلة والداعية لها بالسيطرة على تداعياتها في أوساط الناس والمجتمع. وهي بفعل ما يختلج في فعلها من عواطف منفلتة وتماسٍ بالدين، فإن الانفلات فيها يقود إلى صراعات من الصعب ضبطها في أطر أو حدود أو مستويات معينة. إن حسابات الساسة والساسة المعارضين القصيرة النظر وغير المحسوبة، في كثير من الأحيان، قد قادت وتقود إلى تدمير هائل للنسيج الاجتماعي في المجتمعات المضطربة والمجتاحة بمشكلات الصراعات الطائفية العنيفة والمتوسطة.

من هنا، فإن أي مراقب لحال منطقة الخليج يشعر، ولربما يتلمس، في مجموعة من المؤشرات قدراً من الاستقطاب الاجتماعي الذي بات يأخذ في أحد أشكاله بعداً طائفياً. فتداعيات الصراعات الطائفية أو ذات البعد الطائفي في العراق وسوريا ولبنان وجدت طريقها إلى منطقة الخليج العربي، بل إن وسائط الاتصال الاجتماعي الحديثة، التي هي في متناول القطاعات الأوسع من السكان، أصبحت أحد أهم أدوات التعبئة والتحريض المذهبي، بل إن دعاة الدين في هذه الدول وبعض قياداتها السياسية قد أصبحوا أدوات للتحريض المذهبي في منطقتنا. هذه الأطراف في عمومها وفي بحثها عن تعاطف وتساند قد وظّفت الدين العابر للحدود في شحذ التعاطف والدعم. وليس سراً القول إن بعض هذه الأصوات الدينية والسياسة فتحت لبعضها الأبواب، وفتحنا كنتيجة لذلك على أنفسنا أن تلحق بنا بعض من مشكلات صراعاتهم الدينية... التي لا يمكن لها أن تحل عبر توظيف للعنف والعنف المضاد بقدر ما هي مشكلات سياسية.. لا يمكن أن تحل إلا عبر قدر من التوافق السياسي، يعيد إلى هذه المجتمعات وأفرادها قدراً مهماً من العدالة والكرامة الإنسانية.

ثم إن تدفّق «المجاهدين» والمحاربين بالعشرات ومن كل المذاهب، من كل دول الخليج، على الانخراط في ما يمكن تسميته بـ«الحروب الدينية» في العراق وسوريا إن هو إلا نتيجة لعمليات التعبئة الدينية والتحريض السياسي، وهي عمليات كانت قادرة على الدفع ببعض شباب المنطقة للدخول في صراعات وحروب سياسية تحت اسم «الجهاد» في المنطقة العربية. وهي صراعات، بفعل هذا التدفّق الكبير لبعض شباب المنطقة، ولربما التساهل في ضبط المروّجين والدافعين لها في المنطقة، ستكون عواقبها غير المنظورة كبيرة وخطيرة.

ولا ننسى أن جزءا من عمليات التعبئة والتحريض الطائفي قد لعبته بعض المحطات الفضائية المنطلقة من منطقة الخليج أو تلك المموّلة من بعض القوى والجماعات والأفراد، والتي تبث برامجها من المنطقة أو بعض المناطق الإقليمية والمجاورة. وهي محطات لعبت دور التحريض المذهبي والطائفي في كل الأحداث التي مرت بها منطقة المشرق العربي.

أيضاً، لا ننسى أن بعضا من الشحن قد يأتي من تعليقات منفلتة من «شيخ دين» أو من أحد الدعاة الكثر (شيوخ الفضائيات) في إحدى الفضائيات الدينية. وهي تعليقات قد يرى البعض أنها قد لامست «خطوطه الحمراء»، مما يستدعي رده عليها إما بتسييره لمظاهرات واحتجاجات رافضة ذلك وإما بدفعه لعملية / عمليات انتحارية في البلاد الإقليمية المشتعلة بالحروب الأهلية «ترد الكرامة وتشحذ الهمم».

وبشكل عام، فإن الصراعات الطائفية هي في واقعها صراعات بالدين على السياسة أكثر منها صراعات دينية، على الرغم مما تحمله من يافطات دينية ومن نعوت تأخذ بُعداً دينياً، وعلى الرغم من كثرة الناطقين بالدين فيها.

إن أحد حلول الصراعات المذهبية والطائفية لا يمكن بحثه في الدين وحده، بل عبر قدر أكبر من التوافقات السياسية والصيغ التشاركية التي تحفظ للناس، كل الناس، حقوقهم السياسية والاجتماعية بعيدا عن الدين والعرق والجنس واللون والأصل.

* كاتب وأكاديمي بحريني