هل هناك حقا أزمة اسمها «أبناء الخليج في سوريا»؟

لا .. المشجب الخارجي لا يغني عن مواجهة أزمات المجتمعات الداخلية

TT

الغريب أن سؤالا من هذا النوع لم يبرز ويتصدر الإعلام المرئي والمكتوب والمسموع قبل عام ونصف العام، حين كانت القضية الأساسية لكل المنابر المعادية للثورة السورية هي «جهاد النكاح» وزواج الكهول الخليجيين من قاصرات في مخيمات اللجوء، وخصوصا مخيم الزعتري الذي اختُلقت حول قاصراته وكهول الخليج ألف قصة، قبل أن تخمد نيران الدعاية الإيرانية ضد السوريين والسعوديين.. ممثلة بقنوات تلفزيونية وأبواق إعلامية لبنانية وإيرانية ناطقة بالعربية.

والحقيقة أن الإعلام المعادي للثورة السورية، الذي تفنن في تشويه السوريين والخليجيين الداعمين للشعب السوري في ثورته ضد الظلم، كان يعرف أن أكاذيبه لا يمكن أن تصمد طويلا أمام صحافة استقصائية سهلت عملها تكنولوجيا العصر. لذا كان يقفز في مسيرة الكذب والتشويه المتواصلة من قضية إلى أخرى من دون تدقيق أو ترابط منطقي، ويلف ويدور وليس في ذهنه إلا قضية واحدة هي إثبات أن سوريا لا تعيش ثورة وأنها أصبحت بؤرة للإرهاب الدولي، وبالتالي يجب تجنيد كل طاقات العالم للقضاء على تلك البؤرة، و«دعم الرئيس السوري المسكين (بشار الكيماوي) الذي يحارب الإرهاب العالمي وحده»! ومع تعدد أكاذيب ذلك الإعلام وقصصه المختلقة والمستندة إلى مخيلات مريضة غالبا ظلت حكاية «مكافحة الإرهاب» – وتحديدا «القاعدة» وتوأميها «داعش» و«النصرة» – العمود الفقري للهجمة الإعلامية الإيرانية وأبواقها، على الرغم من أن نسبة عالية من المطلعين تعلم أن إيران هي من يدعم «القاعدة» وإرهابها، وأنها المستفيد الأول من مغامرات التطرف العالمي الذي مكّن لها في أفغانستان والعراق، وساعد حليفها في دمشق على الاستفادة من مقولات «محاربة الإرهاب» لحجب الدعم الدولي عن المقاتلين الفعليين من أجل الحرية.

لقد كان ذلك الإعلام المعادي يرى في تشويه المجتمعات الخليجية و«شيطنة» الثورة السورية هدفا دائما لصراع يراه طويلا، ويعد له العدة منذ زمن أبعد من زمن «الثورة الإسلامية» خدمة لمشروع فارسي يجري التخطيط له من قبل الخميني. وهو يتواصل بعده بشعارات مختلفة لكنها، مهما بالغت في التستر لا تخفي جوهر المشروع الشاهنشاهي القديم، الذي لن يشعر مريدوه بالنجاح قبل إخضاع الخليج العربي سياسيا لأطماع إقليمية.. تختفي وتعاود الظهور كل فترة بثياب وشعارات جديدة.

نعم هناك بعض الخليجيين الذين يقاتلون في سوريا. ونعم هناك نسبة من الشباب المتحمس الراغب في الالتحاق بالمقاتلين، لكن هذا كله لا يرقى إلى تسمية الأمر «أزمة»، ولا يمكن مقارنته بـ«الجهاد» في أفغانستان، كما يحلو لبعض المستسهلين القفز إلى نتائج ومقارنات من هذا النوع.

لقد كان الظرفان المحلي والدولي في الثمانينات مختلفين تماما عن الوضع الحالي، وكانت الدول حينها هي من تجند بشكل غير مباشر، وتنقل المقاتلين وتدعمهم «لوجستيا». كذلك كان رجال الدين على موقف واحد لا يشذ عنه أحد. وفي تلك الأوقات، كان الشيخ الذي ينطق بكلمة واحدة ضد «الجهاد» في أفغانستان لا يسلم على رأسه.

أما اليوم فتتنوع الآراء وتتعدد حول مشروعية القتال في سوريا. ودول الخليج نفسها، على الرغم من دعمها للشعب السوري، لا تخفي في خطابها السياسي والإعلامي عدم تشجيعها على الذهاب إلى سوريا، بل إن بعضها يعاقب على ذلك في حال ضبط متورطين. ولقد كان هذا الخطاب الخليجي واضحا منذ المؤتمر الأول لـ«أصدقاء سوريا» في تونس، ولم يكن في الخطاب الرسمي الخليجي أو قنواته الدينية منذ ذلك الوقت أي إشارة مستقلة للجهاد والمجاهدين في سوريا. وما الجدال الدائر بين الإعلام السعودي هذه الأيام، وبعض الدعاة المؤيدين للجهاد في سوريا، إلا أحد أشكال الخلاف العميق بين ما يجري حاليا في الشأن السوري وبين ما جرى تاريخيا أثناء ما يمكن تسميته «أزمة أبناء الخليج في أفغانستان»، تلك الأزمة التي أنتجت «القاعدة» وتوابعها وكان لها آثارها اللاحقة في البوسنة والهرسك والشيشان، وصولا إلى تفجير مركز التجارة العالمي في نيويورك.

إن «أزمة أبناء الخليج» كانت وستظل في الخليج نفسه لا خارجه، والمشجب الخارجي لا يغني عن مواجهة أزمات اجتماعية في دول الخليج وجاراتها، ومنها البطالة.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الانهيار السريع لـ«دولة العراق والشام الإسلامية» (داعش) في سوريا إنما يعود إلى التجنيد السريع الذي وظفت لأجله أموال طائلة حين كان الشباب السوري في أزمة اقتصادية خانقة في السنة الثانية من عمر الثورة، ووجد في حينه من يدفع 400 دولار شهريا لكل متطوع، في وقت كان فيه المتطوع في «الجيش الحر» يحصل على 100 دولار شهريا ولا تدفع بانتظام. لذا فما إن وضحت الأهداف الخفية لـ«داعش» وبدأ الصدام معها حتى تركها الشباب السوري، فلم يستطع مقاتلوها الأجانب الصمود داخل مجتمع لا يريدهم.

أما على جانب الخليج وشبه الجزيرة العربية، فتساهم البطالة لدى البعض حتما في تسهيل التجنيد مع منظمات متطرفة لا تشكو من قلة المال. وتصبح خديعة الشباب للالتحاق بساحات الجهاد مسألة مزدوجة. فالعاطلون عن العمل يرون فيها بالدرجة الأولى فرصة اقتصادية لمساعدة عائلاتهم، من دون أن يغيب عن الأذهان الجانب العقائدي.. إذ صارت أخبار مشاركة مرتزقة حزب الله والمالكي والصدر مع «الحرس الثوري الإيراني» في القتال داخل سوريا دافعا آخر.. وإن لم يعزز الدافع الاقتصادي، الأول والأساس، فهو لا يلغيه.

وقبل أن يقول قائل هذه مجرد فرضيات نظرية، لا بد من الإشارة إلى أن هناك اعترافات موثقة بالكاميرا لخليجيين في سن المراهقة ذهبوا تحت إغراءات مالية ثم ندموا. وبعضهم يسرد بالتفاصيل حجم المغريات التي قدمت لهم قبل التحكم بهم وتحويلهم إلى رهائن بيد من جندهم.. وهناك العشرات من العائلات التي تبحث عن أبناء لها في سوريا تعتبرهم بمثابة مختطفين لا مجاهدين.

طبعا إن وجود هؤلاء، وهم النسبة الأكبر، لا يلغي وجود فئة أخرى حركتها القناعات الدينية والمبادئ الإنسانية السامية. فالوقوف في وجه الظلم في أي مكان في العالم يظل حافزا تعبويا في مختلف الأزمنة والأمكنة، وبروزه أثناء الثورة السورية ليس غريبا، ولا هو سابقة في التاريخ الإنساني.. ذلك أنه أثناء الثورة الإسبانية ضد فرانكو تقاطر شباب أوروبا من كل أقطارها بالألوف للقتال مع الجمهوريين الإسبان – وبينهم أشهر كتّاب أوروبا ومثقفيها – ولم يعتبر أحد وجودهم في إسبانيا أزمة لفرنسا أو بريطانيا أو إيطاليا.

* كاتب وإعلامي وناشط سياسي سوري معارض