هل من وجهة نظر خليجية ستشكل تهديدا لاستقرار المنطقة؟

نعم .. نسل «القاعدة» أكثر دموية منها.. ووحدها السعودية تنبهت للخطر

TT

منذ أن بدأت «القاعدة» نشاطها الإرهابي كانت المملكة العربية السعودية قبلتها الأولى، آيديولوجيا وعمليا، ربما لأن البنية الدينية للسعودية وسلفية منهجها تكشف الخلل الحاد في المرجعية الشرعية لـ«القاعدة».. فلا بد من استهدافها لاستلاب هذه القيمة. ومن هنا ارتكزت معظم طروحات «القاعديين» على «تكفير» السعودية ونفي حقيقتها الدينية، إلا أن المملكة نجحت في حرب طويلة كانت شرارتها الأولى تفجير عام 1994، وتمكنت من ضرب «القاعدة» وملاحقة خلاياها في الداخل والخارج. اليوم لم تعد «القاعدة» هي الرعب الفعلي، رغم تعدد مراكزها.. بل لعلها أضحت حملا رقيقا مقابل نسلها المتوالد بكثرة، الذي تفوق عليها في العنف وشهوة الدماء إلى درجة «تكفير» الأم لأن طريقها «ليس إسلاميا نقيا كما يجب» بحسب جيل ناشئ من المفتين الدمويين، كان يعاني من الجفاف والعزلة وقلة الحيل إلى أن وجد أفراده في سوريا الأرض المنشودة والبيئة الحاضنة.. فتنادوا إليها يحملون رايات جهاد اصطنعوه وقعدوا له، وبنوا عليه خطا يقوم على تأويلات مبتسرة تجعل رؤيتهم هي الحق وكل ما عداها كفر بواح يجب استئصاله حماية للأمة ونصرة للإسلام! هذا النفي للآخر لم يقتصر على الأنظمة، بل تعدى إلى زملائهم المفترضين وشركائهم الميدانيين فأعلنوا حربا أهلية تقتنص المخالفين والمرتدّين والمشبوهين.

المفارقة أن هذا الصراع الداخلي لم يقض على الجماعات بل اجتذب إليها أطيافا من الشباب المحشوين بقناعات الجهاد ليندفعوا إلى أحضانها مختارين هذه الجماعة أو تلك.. فأصبحت تنمو عددا وتزداد شراسة وعنفا تبعا لدرجة التوتر والاحتقان.

المشكلة الأساس أن الجذوة البشرية لهذه الجماعات هي من الخليجيين، خصوصا من السعوديين، وهو ما ينذر بموجة إرهاب جديدة تفوق ما قامت به «القاعدة» حجما ونوعا ودموية حال انفضاض المشهد السوري، وعودة جموع الشباب في «سيناريو» يشبه ما حدث بعد الجهاد الأفغاني، ما لم يجر حصارهم في سوريا واجتثاثهم هناك، وهو أمر مستبعد لأن أنظمة إيران وسوريا والعراق تعتمد على هذه الجماعات وتستعين بها في الساحة السورية حاليا.. وتدرك أنها ستصبح ورقة نافعة في المستقبل القريب حين تدفع بها إلى الخليج ليعيدوا سيرتهم الأولى.

المشكلة الأخرى أن هذه الموجة الجهادية الموغلة في التطرف تزرع أفكارا نشطة داخل الخليج وتثير الحماسة في مجموعات من الشباب تتغذى على النهج ذاته، إلا أنها لم تذهب إلى سوريا. هذا يجعل خطرها أشد، والسيطرة أكثر صعوبة، لأن مغذياتها الفكرية نشطة في الداخل الخليجي، وتعمل علانية على إذكاء هذه الروح وتنميتها من خلال القنوات والدروس والجلسات ومواقع التواصل الاجتماعي، وهو الأمر الأكثر وضوحا في السعودية والكويت تحديدا، حيث تكمن رواسب الفكر «القاعدي» التي كمنت لبعض الوقت مع النجاح الأمني السعودي في ضرب الخلايا واستباق عملياتها من دون أن يمس، جوهريا، حواضنها الفكرية. وهذه الحواضن تتلاعب على الشخصية الدينية للسعودية وترفع راية للدين تزايد بها على السلفية السعودية مستفيدة من بعض التناقضات ومتلاعبة بالتفسيرات في ظل ضعف بعض المشايخ التقليديين علميا وضعف حججهم، ونزوع بعضهم إلى الجماهيرية واسترضاء حماس الشباب «الجهادي» والتساوق مع رؤيتهم كي لا يفقدوا (أي المشايخ المومأ إليهم) الحضور والشعبية.. فضلا عن اطمئنانهم وسلامتهم من الحساب والمساءلة، استنادا إلى وقائع كثيرة مرت بسلام وبقي أصحابها يرفعون صوتهم بالجهاد وينادون به من منابر رسمية ويدفعون الشباب، بطرق شتى، إلى الخروج. وهذا ما يحدث، فعلا، مع تسابق الشباب إلى سوريا والجهاد فيها. السعودية وحدها اليوم تستشعر الخطر، وتعمل على إخماد شرارته، بدليل الأمر الملكي بملاحقة المحرضين. غير أن النبرة «الجهادية» في الكويت تتعالى في مناخ مفتوح. وعليه فمن لم يجد له مكانا في السعودية سيلجأ إلى الكويت. وهناك القنوات ذات الطابع «الجهادي» نشطة على «عرب سات» و«نايل سات» ومعظم أصواتها خليجية.. فإذا اجتمع المحرضون إلى الميدانيين اكتملت الصورة المرعبة وتكشّف حجم الخطر وطبيعته.

الحالة السورية أحيت النزعات «الجهادية» ووفرت لها عوامل النمو والاحتشاد. وتباين المواقف السياسية سمح لها بالتكاثر الحر. والخطاب التحريضي يزيد النار اشتعالا، فلا يمكن استكشاف ضوء النفق ولا الاسترشاد إلى طريق السلامة إلا حين يدرك الجميع أن النار لا عقل لها، وأن المتلاعب بها سيكون ضحية شررها المتطاير، وأن الجوع إلى الدم يتبع الحاجة ولا يقف عند خياراته الأولى.

حتى الآن تتحمل السعودية وحدها هذا العبء على المستويات كافة، وهي تناضل من أجل السيطرة على حدودها المكشوفة مع العراق واليمن لغياب الحكومة فيهما، أو تغاضيهما، أو رغبتهما في أن تكون ممرا للإرهاب لا ميدانا له.. مما يجعل المهمة صعبة. الأمل الوحيد هو ضمان أن الخارج إلى سوريا أو اليمن أو العراق لا يعود أبدا. وحينها يمكن السيطرة على التحريض لانقطاع البث وغياب الكادر. أما إذا بقي الوضع على حاله.. فإن للموجة الإرهابية عودة أو على الأقل محاولات شرسة للعودة، ستبقى بصماتها المريرة وإن تم خنقها. ولعل البوابة الأخطر ليست في اليمن والعراق، فالعيون هناك ساهرة.. بل هي في الكويت ما لم يتغير الحال فيها.

* إعلامي وكاتب سياسي سعودي