هل أدّت تفاهمات حقيقية وجدّية بين أطراف النزاع اللبناني إلى انتهاء أزمة تشكيل حكومة تمام سلام؟

لا .. أسهمت في الحل ظروف إقليمية ودولية منها الإرهاب وفشل «جنيف 2»

TT

عصا سحرية مرّت بصورة خاطفة على الزعامات اللبنانية وليّنت مواقفهم، فأبصرت «الحكومة السلامية» النور. حكومة التناقضات الوطنية هذه عانت مخاضا طويلا استغرق نحو أحد عشر شهرا، مما أوحى للبعض بأن الولادة لن تحصل. ولكن خلافا للتوقعات تحقّق المستحيل. عصا سحرية من دون شك، لكن المُمسكين بها أكثر من طرف.. وعلى أكثر من مستوى.

لبنان، مع دخول الأزمة السورية عامها الرابع ومن قبلها أيضا، كان ساحة بريد دولية وإقليمية. وكان من الصعب أن يصل فيه أي استحقاق سياسي إلى خواتمه من دون مظلة خارجية كبيرة تظلل المظلة المحلية الأصغر. ومع «الحكومة السلامية» بات المشهد أكثر تعقيدا، وعدد الأطراف المعنيين أكبر، والمسائل المطروحة متشعّبة بشكل واسع.

أولا: على المستوى المحلي وضعت التشكيلات اللبنانية الرئيسة شروطا تعجيزية للمشاركة في الحكومة. قوى «8 آذار» لن تتخلى عن الثلث المعطّل، وقوى «14 آذار» لن تغطي مشاركة حزب الله في الحرب السورية عبر الجلوس معه إلى الطاولة الحكومية، و«التيار الوطني الحر» متمسك بوزيري الطاقة والاتصالات في وزارتيهما على طريقة «أنت أو لا أحد».

وعلى صعيد قوى الصف الثاني - التي تضم ساسة مستقلين - كان من المستحيل تدوير الزوايا مع النائب بطرس حرب الذي يتهم حزب الله بحماية متهم باغتياله عبر محاولة تفخيخ مصعد مكتبه. وهو اليوم في المصعد نفسه مع وزراء الحزب. أما حزب «الكتائب» فيريد الوزارة والسلطة لكنه يريد أن يبقى في المعارضة: المشاركة في السلطة لتكبير حجمه وفي المعارضة لمنافسة «القوات اللبنانية» على ما تبقى من الشارع المسيحي.

هنا تراجعت القوى السياسية خطوة واحدة إلى الوراء. الوزراء التسعة باتوا ثمانية. ووافق «تيار المستقبل» على «ربط النزاع» إلى طاولة مجلس الوزراء بدلا من تركه رهينة عصبية «زعران الشوارع» والمحاور. وقبل التيار العوني بنصف الوزارتين مع جائزة ترضية. فالوضع السياسي الذي خسر بسبب الأزمة السورية فرصة تنفيس احتقان عبر تأجيل الانتخابات النيابية لم يعُد يحتمل تأجيل استحقاقات إضافية.

عصا التحول السحري هذه سببها خوفان ورغبة: الخوف العوني من الفراغ الرئاسي مما يهدد وجود الرئاسة بمفهومها الحالي. وخوف «المستقبل» من تحول حكومة نجيب ميقاتي ذات اللون الواحد إلى «مجلس رئاسي». ورغبة حزب الله في ترييح البلد سياسيا للحد من تراجعه بين جمهوره وجمهور المقاومة، ولتخفيف حدة معارضيه واحتواء خسائره في سوريا.

ثانيا: على الصعيد الأمني، بات التهديد بانفلات الإرهاب المتعدد الجنسيات والتعبئة الطائفية أكثر خطرا من قدرة حكومة تصريف الأعمال على مواجهته. وبات من الضروري إيجاد بيئة سياسية قادرة أقله على منع مضاعفات التفجيرات الانتحارية، واستيعاب ردود الشارع عليها، ما لم تكن هذه البيئة قادرة على منعها أو الحيلولة دونها. ومن هنا، ربما تنازل قوى «8 آذار» عن الوزارات المعنية بشؤون الأمن كالداخلية والعدل والدفاع، أو الوزارة الدائرة في فلكها أي الاتصالات. فإلقاء كرة الفشل الأمني على الآخرين خير من من الاحتفاظ بالمنصب ولو كان دسما وسياديا.

ولقد بيّنت الأيام الأخيرة أن التدهور الأمني، معطوفا عليه التدهور الاقتصادي في قدرات اللبنانيين الشرائية وتراجع عدد كبير من القطاعات الاقتصادية، صار قاب قوسين أو أدنى من التسبب في انفجار معيشي يهدد بفوضى شاملة تغرق المركب بمن فيه، ما لم تكن هناك حكومة أقوياء لديها ما يكفي من شرعية على الأرض وفي مجلس النواب لمواجهة الاستحقاقات المحلية.

ثالثا: على المستوى الإقليمي، وهنا العنصر البارز، أظهر فشل مؤتمر «جنيف 2» أن الأزمة السورية مستمرة لفترة طويلة من دون أي تغيير جذري على الأرض. والمراوحة هذه باتت تهدد بانتقال الأزمة المذكورة إلى مناطق لبنانية حدودية وتحويلها إلى مواجهة إقليمية مفتوحة تشارك فيها إسرائيل وغيرها من الدول، فتخرج الأمور بصورة نهائية عن السيطرة. ويبدو أن أحدا لا يحبّذ مواجهة من هذا النوع، فالمناخ الدولي يسير على إيقاع تفاهمات إيرانية أميركية، وتقارب تركي إيراني، وإعادة تموضع خليجي يسعى مع إدارة أوباما لحل الأزمات المفتوحة تعزيزا للحرب الشاملة على الإرهاب، الذي بات يشكل عنوانا للعدو العالمي رقم واحد. ومن هنا كان التوجه الإقليمي والدولي إلى إغلاق الملفات الممكن إغلاقها، درءا لتوتر إضافي وتسهيلا للحلول المحتملة.

رابعا: على الصعيد النفطي تبين أن لبنان تأخر في تأمين شروط الالتحاق بالسوق النفطية، وأن ذلك لن يتحقق بـ«حكومة اللون الواحد». الثروة الوطنية لن تُدار إلا بحكومة وطنية جامعة. وهنا كلمة «إدارة» هي البديل المهذب عن «محاصصة»، خاصة أن الأرقام المتوقعة من حجم الاستثمارات النفطية فلكية في لبنان، وبعض التقديرات تتحدث عن ثروة تقدر بنحو ألف وخمسمائة مليار دولار في باطن الأرض. هنا يصبح النفط اللبناني شأنا محليا وإقليميا ودوليا. ويضع لبنان بين الدول المنتجة وعلى خريطة خطوط نقل الطاقة. والنفط كما رأس المال جبان، عاجز عن العمل والاستثمار إلا في بيئات سياسية مستقرة غير متهّورة، تضمن استمرارية الإنتاج على المدى الطويل، وتحمي الاستثمارات.

صحيح أن حكومة تمّام سلام لن تعمّر أكثر من ثلاثة أشهر، وستصبح من بعدها «حكومة تصريف أعمال» في حال تم الاستحقاق الرئاسي على خير، إلا أن ظروف تشكيلها كانت معقّدة إلى حد كبير، وتداخل فيها الإقليمي بالمحلي. من المستحيل القول إن أسباب التشكيل لبنانية مائة في المائة، مع أنها أيضا ما كانت لتبصر النور لولا الرغبة المحلية لا بل المصلحة بتسوية ما تحيّد البلد عن لهيب الرسائل المتفجرة من أين أتت. ولكن بما أن العناصر المؤثّرة في التشكيل متغيرة، يبقى الوضع الحكومي مفتوحا على كل الاحتمالات.

* كاتب لبناني ورئيس تحرير موقع «مختار»