هل فرضت الظروف والاعتبارات الإقليمية على اللاعبين المحليين ترحيل خلافاتهم أو تلطيفها؟

نعم .. الظروف والاعتبارات الإقليمية لعبت الدور الأبرز في تسهيل التشكيل

TT

كثيرة هي الأسباب التي حوّلت المواقف السياسية القاتمة السواد إلى بياض ناصع أين منه ثلج جبل الشيخ الغائب بفعل العوامل الطبيعية والانحباس الحراري في زمن الانفراجات الإقليمية. سياسيا، دخل حابل الأمن بنابل الاستحقاق الرئاسي، معطوفة عليهما حاجة حزب الله المُلحّة للغطاء السني الذي يُمثله «تيار المستقبل» بعدما تأكد للحزب المُنخرط حتى النخاع في «الجهنم السوريّ» أن سياسة اختلاق زعامات سنّية بديلة لم ولن تجدي نفعا.

بالعودة إلى أصل المشكلة نجدها بدأت عام 2011 مع «الانقلاب الأسود» الذي نفذه حزب الله على «اتفاق الدوحة»، وذلك يوم انتظر دخول رئيس الحكومة وقتذاك سعد رفيق الحريري للقاء الرئيس الأميركي باراك أوباما. إذ أسقطه من منبر حليفه المسيحي العماد ميشال عون، قاطعا ذاك الـOne - way ticket الشهير، الذي ولسوء طالع حزب الله تزامن مع بدء الحراك السوري مطالبا برحيل الأسد.

هذا الحراك، الذي بدأ سلميا وما لبث أن تعسكر بفعل إتقان النظام الأسدي لعبة «شيطنة الثورة» وتطعيمها بأدوات التكفير، انقلب سحره على الساحر الـ«إيرانو - لبناني»، وهو ما منع هذا الحلف من تحقيق أهدافه الرامية للهيمنة على القرار السني وضرب التوازن اللبناني القائم على الاحترام المتبادل في تمثيل المذاهب داخل الحكومة ترجمة للتمثيل البرلماني.

وفي ظل الغياب «الحريري» القسري عن الساحة اللبنانية لأسباب تأكدت صوابيتها مع اغتيال رئيس فرع المعلومات اللواء وسام الحسن، وأخيرا جريمة اغتيال الوزير الأسبق محمد شطح، ونتيجة انخراط حزب الله في الحرب إلى جانب النظام الأسدي الذي يقتل شعبه تارة بالكيماوي وتارة أخرى بالبراميل المتفجرة، نشط ما بات يُعرف بـ«الجهاد المضاد»، ضاربا عمق المناطق ذات البيئة الحاضنة لهذا الحزب، حاصدا العشرات من الأبرياء. هذا التطور أربك حزب الله الذي يدفع المئات من مقاتليه دفاعا عن النظام السوري ويدفع الضريبة الأكبر من أهله وناسه الذين ما عادت تحتمل أجسادهم المنهكة، وتزايدت الضربات الآتية من كل حدب وصوب، منها الاهتزاز الأمني المُتكرر بوتيرة مرتفعة، ومنها شبه الانهيار الاقتصادي الناتج عن انعدام الأمان الذي يحيط بهذه الشريحة ذات الأغلبية التي تُعرف بأنها ما دون الطبقة الوسطى وفقا للتصنيف المعيشي المتعارف عليه. من هنا بدأ التحوّل الجذري في خطاب أمين عام حزب الله ليعلن قبوله حكوميا بما سبق له أن أعلن رفضه جازما، لا سيما «الثلث المُعطِّل» داخل الحكومة.

يُخطئ من يعتقد أن عودة سعد الحريري هي عودة جسدية بقدر ما لها من أبعاد سياسية على أنقاض المشروع التي فشل حزب الله ومن خلفه في تكريسه لبنانيا. إنها ليست رحلة في طائرة تعود إلى بيروت بقدر ما هي مواجهة يقودها الاعتدال لوقف تمدد المشروع الإيراني في المنطقة.. هذا المشروع الذي توسل خلق التطرف المتمثّل في بعض اتجاهات «الإسلام السياسي» الذي يعمل وفق أجندة التلطي وراء الإسلام من جهة، وتركيب تحالف يخترق العمق العربي قوامه التطرف السني الذي يحمل مشروع القضم والعنف دون تمييز بين أبناء جلده وغيرهم، والتطرف الشيعي المتحالف معه بلباسه الإقليمي الذي تقوده إيران. وهي أيضا عودة تكريس نموذج الاعتدال المتصالح مع «الربيع العربي»، لا بل الذي أنتج بمكوناته اللبنانية هذا الربيع من وسط بيروت.

عودة الحريري إلى صلب المعادلة السياسية القائمة على التفاهمات، هي نتاج استراتيجية واضحة قادتها المملكة العربية السعودية في مصر، حيث قطعت الطريق على تحالف بين إيران وبعض الإسلام السياسي، داعمة المشروع الوطني المصري، وفي سوريا حيث تحركت لمنع إيران من تحقيق هدف إبقاء النظام، وفي لبنان حيث تسعى إلى إعادة تصحيح الانقلاب بعد أن أُنهِك الانقلابيون في سوريا ولبنان.

وعلى قاعدة «إذا أردتَ أن تعرف ماذا في لبنان فعليك أن تعرف ماذا في العالم العربي» من تفاهمات قد تعيد مياه الألفة إلى مجاريها، يعود الاعتدال الآن إلى ممارسة دوره، فيدخل واثقا في حكومة ائتلافية هي حكومة «ربط النزاع» مدركا أن إرباك حزب الله وتخبطه لا بد سينعكس تعديلا في ميزان القوى، إذا ما نظرنا إلى سوريا ما بعد الأسد.

فليست صدفة أن يقبل حزب الله بتسليم حقيبتي التوأم «العدل والأمن» لوزراء ينتمون إلى تيار المستقبل، مع ما لهذا القبول من مدلولات واضحة حول الحاجة الأكثر من ضرورية للاعتدال السني على حساب التطرف، وقدرة هذا الاعتدال دون سواه على الحد من التفلت نحو السلوك التكفيري الذي راهن عليه حزب الله ذات انقلاب.. وفشل إلا في استدراجه إلى الداخل اللبناني.

وليست صدفة أن يقبل أيضا بتسليم وزارة الدفاع الوطني لوزير ينتمي إلى فريق رئيس الجمهورية الذي كانت له اليد البيضاء في التواصل الإيجابي مع المملكة العربية السعودية لتأمين الهبة المالية والدعم المطلوب لتسليح الجيش اللبناني لمواجهة كل أنواع الإرهاب.

هي إذن حكومة عودة المياه إلى مجاريها الطبيعية في انتظار البيان الوزاري الذي من المفترض أن يُبصر النور في الساعات القليلة المقبلة. بيانٌ بات أقرب ما يكون إلى الامتحان، الذي على أساسه تُكرم هذه الحكومة أو تُهان.

يبقى السؤال الأبرز: أهي حكومة الثلاثة أشهر عشية انتخاب الرئيس العتيد للجمهورية، أم هي حكومة إدارة الفراغ الناتج عن عجز الأطراف عن الانتخاب، أم هي حكومة إعادة انتخاب الرئيس العماد ميشال سليمان الذي مارس في مرحلة دقيقة وصعبة حرفة «ضبط» الخلاف الداخلي والحد من تداعياته من جهة، ودبلوماسية المرونة التي مكّنت من التواصل مع القوى الإقليمية والدولية الكبرى في آن، فكان «إعلان بعبدا» وكانت «وثيقة بكركي» المولودة من رحمه.. وكانت حكومة؟!

* ناشط سياسي وناشر موقع «ليبانون تايم»