هل فرضت الظروف والاعتبارات الإقليمية على اللاعبين المحليين ترحيل خلافاتهم أو تلطيفها؟

لا .. هذه المرة طغت العوامل الداخلية على المؤثرات الخارجية

TT

ترسّخ لدى اللبنانيين نوع من انطباع أو تقدير بأن كل ما يحصل على الساحة اللبنانية لا بد من أن يكون ترجمة لرغبة أو إرادة خارجية، وبالتالي، تأليف الحكومة يشكل جزءا من هذه القاعدة.

وحقا لا يجوز إسقاط أو تجاهل العامل الخارجي المؤثر على مجريات الحياة الوطنية اللبنانية، لا سيما التدخلات السورية السابقة والإيرانية الحالية، هذه التدخلات التي حالت دون استعادة اللبنانيين سيادتهم واستقلالهم وقرارهم الحر، وأبقت لبنان «صندوق بريد» وساحة مستباحة من طهران ولأغراضها وأهدافها. ولكن، في المقابل، لا يجوز مطلقا ربط «كل» الحراك السياسي الداخلي بالعوامل والمعطيات الخارجية، إذ غالبا ما تتقاطع العناصر الخارجية مع الداخلية فتؤدي إلى تسهيل تمرير استحقاق معين، خصوصا في حال كان هذا الخارج أو معظمه لا يولي في لحظة معينة أي اهتمام بالقضية اللبنانية وتنحصر أولويته في مسألة محددة تتمثل اليوم في إبعاد الهم اللبناني عن أجندته واهتماماته.. نظرا لانشغاله بقضايا أخرى وفي طليعتها النووي الإيراني.

الهمّ الخارجي يتركز اليوم على نقطة واضحة أولا وهي الحفاظ على الاستقرار، ولو بالحد الأدنى، أي الحيلولة دون تمدّد الأزمة السورية إلى لبنان. وبالتالي، فلا مشكلة للمجتمع الدولي حتى في تسليم لبنان إلى حزب الله تحت هذا العنوان، وموقفه من حكومة الرئيس نجيب ميقاتي أكبر دليل على ذلك، الأمر الذي يجعله على استعداد لتغطية أي مبادرة داخلية تسهم في تبريد الأزمة اللبنانية.

ومن هذا المنطلق شكّلت أربعة عوامل داخلية، تقاطعت مع دوافع ومؤثرات خارجية، المحرّك الأساس للتأليف:

العامل الأول، حاجة حزب الله إلى الغطاء السني الداخلي لمواجهة الهجمة «التكفيرية» عليه بعد انخراطه في القتال السوري، وفشل كل إجراءاته الأمنية في التصدي للتفجيرات الإرهابية التي أربكته وأقلقت بيئته. وارتفاع منسوب التعبئة المذهبية دفعه إلى البحث عن الخيار الذي يبقيه في سوريا ويوفّر له الحماية في لبنان من خلال إشراك الاعتدال السنّي في عملية مواجهة الإرهاب، فاندفع باتجاه التراجع عن «الخطوط الحمر» التي كان رفعها بنفسه من قبيل رفضه أي بحث بحكومة من ثلاث «8+8+8»، (أي ثمانية وزراء من كل من كتلتي «8 آذار» و«14 آذار» والمحسوبين على رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ووليد جنبلاط)، وبالتالي فإن تراجعه عن سقفه التفاوضي فتح الباب أمام انطلاق مفاوضات التأليف وولادة الحكومة، ما يُحمِّل الحزب مسؤولية تجميد البلد لأكثر من عشرة أشهر.

وما تجدر الإشارة إليه أن التفجيرات التي تستهدف بيئة حزب الله ترتبط ارتباطا مباشرا بقتال الحزب في سوريا، وعبثا البحث عن حلول أمنية أو تأمين مظلات سنّية ووطنية ما لم يصَل إلى معالجة الأسباب الموجبة الفعلية لهذا الإرهاب والتي تعود حصرا إلى قتاله في سوريا. وعلى الرغم من حرص تيار المستقبل وكتلة «14 آذار» على كل قطرة دماء تسقط، فإن حماية اللبنانيين تكون بدفع الحزب للخروج من سوريا، لا المشاركة في تحمّل المسؤولية عن قضية لا ناقة لها ولا جمل فيها، بل ويمكن أن ترتد سلبا على شارعها وصدقيتها وشعبيتها.

العامل الثاني، حاجة تيار المستقبل إلى إبعاد الرئيس نجيب ميقاتي - الذي وصل على رافعة حزب الله إلى السراي الحكومي - خصوصا أن احتمالات الفراغ في رئاسة الجمهورية واسعة ومفتوحة، مما قد يعيد تعويم ميقاتي ربطا بانتقال صلاحيات الرئاسة إلى مجلس الوزراء مجتمعا، وتحوّله إلى الرأس الأوحد للسلطة التنفيذية. وفي موازاة هذا العامل لا يجب التقليل من خشية «المستقبل» من ارتفاع منسوب التطرف داخل الشارع السني بفعل مشهد الدم السوري والاستهداف المبرمَج لأهل السنة في لبنان، الأمر الذي يُفقد «المستقبل» مع مرور الوقت جمهوره، خصوصا في ظل وجود الرئيس سعد الحريري في الخارج، وغياب المال السياسي، والبقاء خارج السلطة. ويبقى عامل مهم أيضا ويتمثل في الفشل في إنتاج معارضة جدية ومقاومة مدنية سلمية حقيقية في مواجهة حزب الله، فضلا عن أن «المستقبل» بطبيعة تكوينه لا يرى نفسه خارج السلطة.

ثالثا، وهنا ربما أبرز المؤثرات الخارجية، دفعت الهبة السعودية لتسليح الجيش اللبناني بـ3 مليارات دولار من الدولة الفرنسية، فرنسا إلى التحرك في محاولة لفكفكة العقد الحكومية بغية تسهيل تسييل هذه الهبة التي تتطلب قيام حكومة جديدة. وكانت الرياض أحالت مسألة قرار المشاركة مع حزب الله في حكومة واحدة أو عدمها إلى اللبنانيين الذين يقدّرون، بنظرها، مصلحة بلدهم، على الرغم من موقفها المتشدد من طهران وحزب الله، وتشكيلها رأس حربة في مواجهة مشاريع إيران التوسعية في المنطقة.

رابعا، في ما يخص واشنطن، فإنها لا تعير أي أهمية للملف اللبناني، وكل همها في هذه المرحلة منع انتقال الفوضى السورية إلى لبنان كي لا يتهدّد أمن إسرائيل وتتحوّل الأزمة السورية إلى حرب إقليمية، وهذا ما جعلها تبارك، بل تهلل، للتسوية الحكومية.

وفي الخلاصة، كل القوى المحلية والخارجية تعتمد اليوم سياسة شراء الوقت بانتظار تبلور المشهدين الإيراني والسوري. لكن لا شك في أن العوامل الداخلية طغت هذه المرة على العوامل الخارجية فأسهمت في الوصول إلى التسوية الحكومية، أما العوامل الخارجية فكانت مجرد عوامل مساعدة وحاضنة للرغبات أو المصالح الداخلية.

* كاتب ومحلل سياسي لبناني