هل يجد التيار المدني مصلحة له في أن لا يكون له مرشّح في هذه الانتخابات؟

نعم .. من مصلحة التيار المدني أن لا يكون له مرشح للانتخابات الرئاسية المقبلة

TT

الثقافة المجتمعية التي تحكم الساحتين السياسية والاجتماعية ترسم إلى حد كبير مصير الأمم، ومن هنا طالب المصريون بعد «25 يناير (كانون الثاني)» بالتصدّي لكل جوانب التخلف والرجعية في مؤسسة الحكم، لأننا وبقدر ما ننشد التغيير نتطلع إلى تبني مفهوم مهم جدا، ألا وهو الحفاظ على ترابط أوصال المجتمع لبناء الدولة المدنية، وهو جزء من تراث مصر. وبنظرة تاريخية، بعد دخول الحملة الفرنسية اجتمع المصريون على قلب رجل واحد امتدت إليه الأيادي رهبا وخوفا من أن يقوم الفرنسيون بتقطيع مصر إلى دويلات صغيرة، كما فعل المستعمر الفرنسي في دول عدة.

وبوجود عمر مكرم، كأحد القيادات الثورية لوضع الضمانة الحقيقة للتوحّد لمحاربة الفرنسيين، وبانتهاء معارك المصريين، أدرك عمر مكرم أن دوره قد انتهى على الرغم من المطالبات العدة لاستكمال دورة بترسيخ أركان الدولة العصرية، وآثر أن يسلم مقاليد الحكم للقائد العسكري (محمد علي باشا) ليصنع طفرة في المجتمع المصري، ويضع مصر على أولى خطوات العالمية.

هذه المقدمة البسيطة سقتها لندرك كمّ المعانة التي تعايشها الحياة السياسية والمؤسسة العسكرية في مصر، والمشكلات التي ستواجه الرئيس القادم من أزمة اقتصادية طاحنة إلى مطالب فئوية، إلى أزمة طاقة وديون خارجية وداخلية متراكمة، وما إلى ذلك من مشكلات أخرى.

.. أما المشكلة الأسوأ من هذا كله، فهي شعب بات منهكا في ظل ثلاث سنوات ثورة، فاقدا للأمل ويريد مُخَلِّصا. الكل يعرف حجم العبء الذي سيُلقى على عاتق الرئيس القادم. البعض يتوقع فشله والبعض يتمنى نجاحه والبعض الآخر سيعمل على إسقاطه. أما الشيء المؤكد، فهو أنه لا أحد في مصر، ولا حتى المؤسسة العسكرية نفسها، وعلى رأسها السيسي، يستطيع تحمل العبء وحل كل تلك المشكلات وحده، ولذا فإنه لا فارق بين المستويات المختلفة في الحكم.

أضف إلى كل تلك المشكلات أنه خلافا لحالة الإخوان المسلمين، فليس هناك من بين التيار المدني من لديه كيان قوي أو منظومة تمتد جغرافيا في مصر كلها ولها جذور مجتمعية. ناهيك عن الفشل الذريع للأحزاب المصرية. وهذا بخلاف أن أي مدني قادم لن يكون لديه من الكوادر المنتمية لتياره ما يكفي لتحمل مسؤولية دولة بالكامل، من وزارات إلى محافظات إلى دواوين وهيئات.. ولذا يتساوى كل المدنيين المحتملين للرئاسة في عجزهم عن تسيير الدولة وحدهم.

أما التحدّي الأكبر، فهو أجهزة الدولة نفسها، وعلى رأسها الأجهزة الأمنية والسيادية. فهي خارجة من تجربة حديثة مريرة مع جماعة الإخوان المسلمين، وثقتها في القادم المدني معدومة مسبقا، وفي حالة ترقب وتحفز. فكيف لذلك المدني المنتظر الذي يجهل كل شيء عن تلك الأجهزة ومبانيها وأفرادها أن يتعامل معها، بل ويرأسها، بل ويوجهها تبعا لسياساته.

بالطبع تبقى المؤسسة العسكرية، وعلى رأسها السيسي، الطرف الأقوى في المشهد السياسي، ومحركا أساسيا لكثير مما سيجري أيا كان المدني القادم. لا يسعه إلا أن يتعاون مع المؤسسة العسكرية تعاونا كاملا.. لأنه في بعض الأحوال لن يستطيع الفصل في بعض الملفات - مثل العلاقات الخارجية والأمن القومي والتسليح للمؤسسة العسكرية - ومع أنه ليس للرئيس أي موقف ملتبس وغير مرضٍ للكتلة المدنية الثورية.. لكنه الواقع اليوم شئنا أم أبينا، ويجب التعامل معه بحكمة والاستفادة منه أيضا إن أمكن.

المسؤولية جد خطيرة، وعوامل الفشل أكثر بكثير من عوامل النجاح، ولكنني أزعم أن ثمة حلولا عدة تتوقف في وجودها على معادلة مهمة. إن من مصلحة المؤسسة العسكرية أن تصل مصر إلى حالة من الاستقرار. وبداية تحرك الاقتصاد المتعطل منذ ثلاث سنوات، كما أن من مصلحتها أيضا أن تنتهي ثنائية الصراع بينها وبين الإسلام السياسي، وتتحوّل دفة الصراع إلى وجهة أخرى، فهذا من شأنه أن يلغي خطر تجارب الدول الأخرى، وخاصة التي تستقل فيها المؤسسات العسكرية عن منظومة الحكم! بل إنه، وفي ظل صراع دولي وإقليمي، فمن المفضل جدا تقسيم المسؤولية، وبالذات المدنية مع أطراف وطنية أخرى، بحيث تتفرغ تلك المؤسسات العسكرية والسيادية لإعادة بناء قدراتها وترتيب البيت داخليا. وذلك بدلا من تحمل المسؤولية كاملة لملفات عدة، على رأسها ملف الفقر.

إن المهمة التي يستطيع تقديمها الرئيس القادم لمصر هي إتاحة الفرصة للأحزاب والحياة السياسية عامة للعمل بحرية ومن دون تدخل من الأجهزة الأمنية للسيطرة أو التخريب وكبح السلطة، في محاولتها السيطرة على تلك الأحزاب. بل، وعليه مساعدة تلك الأحزاب على النمو وبناء الكوادر وتأصيل جذورها المجتمعية وخلق حياة حزبية صحية سليمة، كانت غائبة، في مصر، لتصبح قاعدة البناء لنظام ديمقراطي حقيقي لتكون الأساس في محاربة التطرّف، وتحمل مسؤولية الدولة بكوادر سياسية انتمائها للمجتمع.

* عضو المكتب التنفيذي والسياسي بجبهة الإنقاذ المصرية