هل يمكن استمرار العراق كما نعرفه مع فوز المالكي بولاية جديدة؟

لا.. المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين فكيف به إذا لدغ ثلاث مرات؟

TT

العراق بلد مدمر وشعب منهك. بلد دمره حكم القائد «الضرورة»، الجاهل المتخلف، الذي أحكم قبضته عليه وسخر كل شيء للإبقاء عليها، وشعب أنهكه ما جلب عليه قائده ذاك من الويلات. شعب ولد ونشأ أكثره على ثقافة الحزب الواحد، وتبجيل القوة الغاشمة واستمراء الفساد، أو على الأقل التعايش معه، وغياب المجتمع المدني ومؤسساته وهجرة نخبه ومثقفيه. شعب مأزوم مقسم تفشت فيه الأمراض الاجتماعية والسياسية، ومنها الطائفية والتطرف والفساد والعنف السياسي.

هذه صورة قاتمة ولكنها صادقة وإن لم تكن كاملة. فالشعب العراقي لا يزال أغلبه يتمتع بمزايا صاغها موروثه الثقافي والاجتماعي العريق والثري وصقلتها المعاناة ومزايا الطيبة والوفاء والتفاني والإبداع والقدرة على التكيف والتحمل، وأحيانا كثيرة، التضحية والبطولة. إلى ذلك، فالعراق يمتلك ثروة نفطية يمكن إن أحسنت إدارتها أن تغطي تكاليف عمرانه وتطوره، وإن أسيئت إدارتها تنهب وتبدد وتنقلب وبالا عليه. لذلك كله فهو بأمس الحاجة إلى قيادات تستثمر عوامل القوة وتحد من تأثير عوامل الضعف فيه وتحرص على الاستفادة القصوى من موارده للصالح العام. للأسف، ما حصل ويحصل هو العكس تماما.

رافق دخول الأميركيين العراق وزوال الديكتاتور ونظامه أمل بالتعافي والبناء الجديد. إذ عاد الكثير من المختصين والمؤهلين إلى وطنهم بدافع المشاركة في إعادة البناء والخدمة العامة، وعم جو من التفاؤل أكدته دراسات استطلاع الرأي في حينه، وانفتحت الآفاق على احتمال نهضة وشيكة. إلا أن الأميركيين لم يحسنوا التدبير لأسباب لا مجال لمعالجتها هنا، وارتكبوا أخطاء فادحة أتاحت الفرصة لصعود الإسلام السياسي إلى الحكم بآليات الديمقراطية التي لا يؤمن بها أصلا. والإسلام السياسي طائفي بطبيعته، فاعتمد الشحن الطائفي وأفرغ المؤسسات الديمقراطية الجديدة الهشة من محتواها، الذي أنشئت لأجله، لكي يحتكر السلطة وفق صيحة زعيمه الجديد نوري المالكي «ما ننطيها» أي لن نتخلى عن السلطة. وهناك أيضا البعد الخارجي الذي لا يمكن إغفاله وهو مؤثر بمقدار ضعف الجبهة الداخلية.

على أي حال عندما جاء المالكي رئيسا لمجلس الوزراء لأول مرة كانت الغالبية في البلد مستعدة لإعطائه فسحة من الثقة والمؤازرة. لكن سرعان ما تبين أنه عازم على الاستحواذ على مفاصل السلطة، فهو وإن كان مضطرا لإشراك آخرين فيها كوزراء أو رؤساء مؤسسات، كان يقوم بتعبئة مؤيديه في الإدارات العليا للسيطرة على الوزارات من داخلها فيصبح الوزير غير الموالي للمالكي صورة بلا صوت! هذا ما جعل التجديد له لولاية ثانية صعبا لم يتحقق إلا بعد عشرة أشهر، والحصول على ضمانات ووعود بإشراك الآخرين في السلطة فعلا. إلا أنه ما إن تسلم منصبه حتى نكث بعهوده، وصعد تجاوزاته على الدستور في سباق مع الزمن لتركيز أكبر قدر من السلطات في يديه وحجب الآخرين عنها ومحاولة تسقيطهم سياسيا واتهامهم بالإرهاب، بدلا من التوجه إلى المصالحة ولم الشمل لمواجهة الإرهاب الذي يمثل العدو المشترك للجميع.

خلال هذه السنوات الثماني الحافلة بالمآسي شهدنا المالكي يسخر القضاء لإرادته ويبسط سيطرته على مؤسسات نص الدستور على استقلالها عن السلطة التنفيذية، كالمفوضية العليا للانتخابات والهيئة الوطنية للإعلام والبنك المركزي وغيرها، ويجمع بيده وزارات الدفاع والداخلية والأمن القومي. كذلك شهدناه يتغاضى عن المتورطين باختلاس أرقام فلكية من أموال الدولة، وتتفاقم في حكومته الفضائح والإخفاقات المدوية في ميادين الأمن والخدمات والإدارة حتى أصبح العراق في مصاف الدول الفاشلة. بل وأنكى من ذلك، فإنه جعل من خلق الأزمات وشحن الكراهية الطائفية المقيتة وسيلة لتثبيت سلطته.

ولو أردنا تعداد إخفاقات حكومة المالكي لما أحصيناها، حتى ضج حلفاؤه قبل مناوئيه يطالبون بتنحيه.

هذا لا يعني أن حكومته لم تنجز شيئا على الإطلاق، أو أن كل من عمل ويعمل فيها فاسد أو غير كفء، أو أن كل مواقف وأعمال المالكي خاطئة، أو أن أعداءه منزهون.. لكننا إذا قارنا بين الإخفاقات الهائلة والنجاحات المحدودة وتكاليفها ليتبين مدى فشل هذه الحكومة.

في الديمقراطيات المستقرة يكون فشل الحكومة كاف للإحجام عن التجديد لها. أما المالكي فسعى ويسعى إلى تخريب الأسس، التي يقوم عليها النظام الديمقراطي، بغية تطويعه وبناء حكم تسلطي موغل في الفساد وقائم على الطائفية، ما قد يجر إلى تقسيم العراق وتفتيته. والفساد والطائفية «ثنائي» مدمر يعتاش على الإرهاب ويحتاج إليه مبررا لبقائه. وهكذا، فالتجديد للمالكي يعني تكريس هذا «الثنائي»، والنتيجة الحتمية لذلك المزيد من التدهور وتفتيت البلد في صراع متزايد الحدة والدموية.. هو ما نشهد بوادره الآن.

أما الذرائع التي تقدم للدفاع عن ولاية ثالثة للمالكي فهي واهية لا تقارن بالمخاطر. ولقد سئمنا من تكرارها مثل انعدام البديل، أو أن فشله لم يكن لقصور فيه بل لإصرار مناوئيه على إعاقة إنجازاته فإن تخلص منهم جاء بالمعجزات، أو أن الفساد ليس ذنبه، بل هو داء اجتماعي خارج عن إرادته.. إلخ. كلها ذرائع قابلة للدحض جملة وتفصيلا.

لقد أكل الثور الأبيض فحذار من أن يؤكل الثور الأسمر!

* وزير عراقي سابق للداخلية وسفير سابق في الولايات المتحدة والأمم المتحدة