هل ثمة ما يمنع من التقسيم الفعلي وانفصال كردستان؟

لا.. العوامل الخارجية مواتية.. وخصوصا إذا بقي المالكي

TT

أزعم بأن لا شيء يمنع الآن انفصال إقليم كردستان العراق أو استقلاله عن الدولة العراقية سوى العامل الداخلي المتمثل في قرار شعب الإقليم نفسه وزعاماته السياسية، فالعوامل الخارجية وسياسات الحكومة الاتحادية ومواقفها، تدفع بزخم قوي في اتجاه الانفصال أو الاستقلال، بينما الوضع الإقليمي هو الأنسب على مر التاريخ.

بمرور السنين العشر الماضية، وفي غمرة الصراع الطائفي الدموي، الذي نشب بين الأحزاب السياسية الشيعية والسنية، تلكأت حكومات بغداد التي هيمنت عليها الأحزاب الشيعية، في تنفيذ كثير من الاستحقاقات الدستورية، وبينها تلك المتعلقة بالوضع الفيدرالي (الاتحادي) لإقليم كردستان. وعلى سبيل المثال، لم تنفذ حتى الآن المادة 140 من الدستور الخاصة بحل مشكلة ما يعرف بـ«المناطق المتنازع عليها» مثل كركوك. كذلك لم يشرع قانون النفط والغاز الذي كان سيحل مشكلة تفاقمت كثيرا في السنوات الأخيرة، هي المتعلقة بحقوق استثمار النفط في الإقليم وتصديره والتصرف بعوائده. ولم تف الحكومة الاتحادية أيضا بالتزامها الدستوري الخاص بقوات البيشمركة الكردية التي جعلها الدستور جزءا من القوات المسلحة مكلفا بحماية حدود الإقليم مع دول الجوار وضمان الأمن الداخلي في الإقليم.

عبر العقود خاض الكرد كفاحا سياسيا، ثم مسلحا، لإقناع الدولة العراقية أو لحملها على الاعتراف بهم قومية رئيسة في البلاد لها حقوقها السياسية والثقافية، وللدفاع عن وجودهم في وجه القمع الحكومي المفرط الذي بلغ ذروته في أواخر الثمانينات من القرن الماضي (حملة الأنفال). وهيأت مغامرة صدام حسين بغزو الكويت (1990) للكرد ظرفا موضوعيا مواتيا للحصول على الحماية الدولية في أجزاء واسعة من مناطقهم، فتحقق لهم ما كانوا يطالبون به على مدى ثلاثة عقود، أي «الحكم الذاتي». وتحولت المنطقة المحمية على مدى أكثر من عشر سنوات إلى قاعدة لمعارضي نظام صدام الذين تولوا الحكم في بغداد إثر عملية إسقاط ذلك النظام بقيادة أميركية. وصار الكرد شركاء في النظام الجديد المنبثق على أنقاض نظام صدام، وساهموا في صياغة الدستور الجديد الذي جعل نظام الدولة ديمقراطيا فيدراليا.

في نوفمبر (تشرين الثاني) 2005 سألت مسعود بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، في مقابلة نشرتها «الشرق الأوسط» عن الظرف الذي يمكن أن يجد الكرد فيه أنفسهم مضطرين للمطالبة بالانفصال والاستقلال، فرد: «إذا اندلعت حرب أهلية بين الشيعة والسنة وانفصل كل منهما عن الآخر، فإن الكرد لن يكون أمامهم خيار غير الاستقلال، أما إذا بقي الطرفان ملتزمين بالدستور فنحن سنظل ملتزمين به أيضا، ونحافظ عليه». كان ذلك عشية اندلاع الحرب الأهلية الشيعية - السنية المتواصلة حتى الآن في الواقع، والتي لم تؤول إلى انفصال الشيعة والسنة عن بعضهم البعض بفعل عوامل محلية وإقليمية. لكن العنصر المتصل بالدستور ومدى الالتزام به هو ما يدفع ببارزاني للتحذير بين فترة وأخرى من إمكانية الانفصال أو الاستقلال، مطمئنا إلى أن لديه ما يبرره، وعنده ما يكفي من التأييد الشعبي المستند من جهة إلى شعور عميق بالإحباط حيال الطريقة التي يعالج بها المتنفذون في حكومة بغداد الخلافات مع أربيل بشأن الاستحقاقات الدستورية المعطلة، ومن جهة أخرى إلى شعور مماثل بالقدرة على حماية قرار الاستقلال.

مما أركن إليه في زعمي بالقابلية السهلة لانفصال إقليم كردستان أو استقلاله، التصريحات التي أدلى بها بارزاني خلال السنتين الأخيرتين، فهو ما عاد يلمح تلميحا فقط إلى الاستقلال أو الانفصال، بل بات يتحدث عن الأمر بصراحة ووضوح. وبارزاني، الذي هو أيضا زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، أكبر وأقدم حركة سياسية كردية، يعرف ما يقول ويعني ما يقول. وهو يعرف أن قرار الاستقلال أو الانفصال، إذا ما اتخذته هيئات السلطة في الإقليم باقتراح منه، سيحظى بدعم شعبي منقطع النظير.

منذ توافر الحماية الدولية للكرد في عام 1991 تصاعدت عندهم المشاعر الاستقلالية، بيد أن زعاماتهم ظلت ترى أن الوقت غير مناسب لعمل يمكن أن يوحد الأنظمة الحاكمة في العراق وإيران وتركيا وسوريا ضدهم. واليوم أيضا ما زال بعض الزعماء الكرد يرون في الانفصال أو الاستقلال في الظروف الراهنة خطوة طويلة، لكن تفاقم المشكلات بين بغداد وأربيل، خصوصا في عهد الحكومة الثانية لنوري المالكي المنتهية الآن ولايتها، يدفع أكثر فأكثر باتجاه خيار الاستقلال أو الانفصال. ذلك أن الكرد يرون أن بغداد عملت في السنوات الأربع الماضية على ابتزازهم (كوقف صرف رواتب موظفي الإقليم، وتهديد شركات النفط العاملة في الإقليم). كذلك يرون اتجاها من بغداد نحو إفراغ الفيدرالية من مضمونها والعودة إلى نظام الدولة المركزية.

وفي آخر تصريحاته، أعلن بارزاني بوضوح «ما لم يحدث تغيير في سياسة حكومة بغداد، وهو الأمر المأمول بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي أجريت في 30 أبريل (نيسان) الماضي، سيتجه الكرد إلى التحول في علاقتهم مع الدولة العراقية من الفيدرالية إلى الكونفدرالية.. أو حتى إلى إعلان الاستقلال. وبذا، يمكنني أن أزعم أيضا أن الانتخابات الأخيرة إذا لم تسفر عن تغييرات كبيرة في معادلة الحكم في بغداد، وبينها تولي شخص آخر غير المالكي رئاسة الحكومة، فإن البوابة الكردية التي ظلت «مواربة» أمام بغداد ستنفتح أكثر على خيار الاستقلال أو الانفصال، أو أقله الكونفدرالية.

* إعلامي وكاتب سياسي عراقي