هل يصحّ القول إن الأمن الخليجي يتعرّض اليوم إلى تهديدات على الصعيدين البنيوي والفكري؟

لا.. مكامن القوة في «الأمن الخليجي» تضمن قدرته على تجاوز التحديات

TT

تحليلنا في هذا المضمار يصبّ، ومن الوهلة الأولى، في القول بأن لا تأثير لمثل تلك التهديدات البنيوية والفكرية على مكوّنات بناء الأمن الخليجي، وذلك، لحقيقة ووضع قائم ولعدد من المعطيات التي تؤكد في مجملها، وبشكل كبير، أن ليس لهذه العوارض والتهديدات، ولا لتلك الأخطر منها - سواء الحالية أو المستقبلية - أي تأثير جسيم أو مقلق على «الأمن الخليجي» الذي يتمتع بمنزلة تجعله بمنأى عن تأثير تلك المتغيرات العارضة.

هنا لا بد لنا، ولو بعجالة سريعة، من توضيح مفهوم «التهديد البنيوي» الذي يتمثّل في ذلك التهديد الذي ينصرف في آثاره إلى المساس بمكوّنات الشيء وجذوره. ومن ذلك، يمكن أن نستشفّ أن التهديدات البنيوية للأمن الخليجي هي تلك المؤثرات السلبية المفتعلة التي تمسّ بشكل مباشر أيًّا من مكوّناته ومرتكزاته وعناصر بنائه.

إن الأمن الخليجي بإيجاز هو عبارة عن الإطار العام الذي يتم من خلاله تأمين الاحتياجات والمصالح العليا لدول الخليج، وصيانة كيانها الإقليمي، وحماية شعوبها، وصيانة أنظمتها السياسية. وبقدر ما تكون هذه الجوانب محميّة يكون الأمن الخليجي محميًّا من أي خطر يهدده.

والأمن الخليجي، في الواقع، يشكل بحد ذاته أحد أهم مرتكزات المنظومة الخليجية العامة النابعة من الفكر الشعبي والسياسي العام لشعوب المنطقة. وهو إطار أمني نابعٌ من إرادة وتوجهات دول المنطقة التي تتشارك فيما بينها بفكرٍ إسلامي سمحٍ معتدلٍ، وجذور عربية أصيلة ضاربة في عمق التاريخ، ونظامٍ قبلي مشترك ذي امتداد شعبي واسعٍ وعميق. ولقد أفرزت جملة هذه المقوّمات، مع مضي الوقت، ظهور لُحمة خليجية سياسية وشعبية متجانسة، ذات طابع فريد، وقادرة بحد ذاتها على تحصين المجتمع الخليجي بشكل عام ودعم جميع مجالاته السياسية والاقتصادية وغيرها. ثم، ما يعنينا هنا، دعم وتقوية تماسك الأمن القومي الخليجي بالدرجة التي أصبح فيها قادرًا على صدّ كل ما هو غير مألوف لفكر ومعتقدات الشعوب الخليجية.

من هنا يمكن القول إنه مهما كانت طبيعة التهديدات التي يواجهها، أو سيواجهها الأمن الخليجي على مرّ الزمان، وسواء كانت بنيوية أو فكرية أو غيرها، فلن يكون لها ذلك الصدى والتأثير إذا ما جاءت بمتغيّرات أو تضمّنت سياسات تتعارض مع مفهوم الفكر الخليجي العام.

وإذا ما تعمقنا قليلًا وأمعنا النظر في مكوّنات الأمن الخليجي فسنلمس أن مكامن القوة فيه متعدّدة، تجعله بشكل مستمر قادرًا على تجاوز التهديدات المعاصرة واللاحقة متى ما ظهرت، والخروج منها بأمن خليجي أكثر وأقوى صلابة نظرًا لأن الأمن الخليجي قائم على إدراك تام لمتطلبات طاعة أولي الأمر، ويرتكز على التمسك بالثوابت والمبادئ والقيم، والأخذ بأسباب التحضّر والمرونة والانفتاح، وتسخير الخبرات الرفيعة المستوى لرسم متطلبات تحصين الأمن الخليجي ضد التهديدات متى ما خرجت إلى حيّز الوجود.

وعليه، يمكن القول إن الأمن الخليجي العام يرتكز على إرث وثوابت ومعتقدات الشعوب الخليجية وفكر مصدره قناعات وعقول الخليجيين أنفسهم. وإذا ما جاءت تلك التهديدات البنيوية والفكرية للأمن الخليجي مغايرة أو متعارضة أو غير مسايرة للفكر الخليجي العام فستجد نفسها في بيئة طاردة لها، وستحجّم وتضمحل بشكل طبيعي مع مضي الزمن، وستتحول تدريجيًّا إلى تهديدات وتحديات خاوية ومتلاشية تكاد لا تذكر من حيث الأثر.

كذلك فإن محرّكات الأمن الخليجي، بما يحتويه اليوم من مفاهيم حضارية، جعلته يرتكز على أرضية شعبية ورسمية متمسكّة بجملة من الثوابت والمبادئ والقيم، ومشتركة من حيث الغايات والمصالح العليا. وهذا ما أوجد في الواقع أمنًا خليجيًّا ذا طبيعة متطوّرة ويتميّز بديناميكية تعمل بشكل تلقائي في طرد ورفض كل ما هو مبتذل وشاذ عن نمط الحياة الخليجية.

الأمن الخليجي اليوم أصبح له من المقوّمات التي تمكّنه من مواجهة مختلف أشكال التحديات والتهديدات والتوجهات المغرضة أو ذات الأخطار الأمنية وما في حكمها. وهذه الطبيعة الصلبة للأمن الخليجي تجعله قادرًا على الذهاب بعيدًا إلى درجة تفريغ مثل تلك التهديدات من مضامينها الفكرية واحتواء وتحجيم تداعياتها الأمنية، بل، والخروج منها بمكاسب معرفية لمواجهة مثيلاتها من تحديات أخطار مستقبلية. ومثل هذه التهديدات العارضة سواء كانت حاضرة أو مستقبلية ومهما كان وقعها ومداها، فإنها زائلة لا محالة، ومصيرها الاندثار لكونها ستصطدم حتمًا بحقيقة واقعية ومفاهيم أمنية خليجية ناضجة وقادرة على فهم وتحليل وتحديد مصادر التهديد، ومن ثم العمل على رفضها وتحجيمها وتجاوز تداعياتها، بل والخروج منها بقوة أكبر وصلابة أقوى.

وكخلاصة، أقول إن الأمن الخليجي لن يكون أبدًا في خطر نتيجة لما يتعرّض له اليوم أو مستقبلًا من تهديدات بنيويّة وفكرية، ولو كانت ذات طبيعة غير مسبوقة، لأنه قائم على العديد من أسباب القوة... التي من أهمها: تسخير المعرفة وأهل الخبرة والعلم، العارفين بأخطار مثل تلك التهديدات متى ما أقبلت، وأعلم بها متى ما أدبرت، والقادرين على صياغة مفهوم العمل الأمني الخليجي المشترك وتطويرها. وبفضل هذه المعطيات يتمتع الأمن الخليجي اليوم بمناخ فكري منفتح ومعتدل، ولديه آليات عمل تجعله بمنأى عما قد يعترضه من تهديدات ومحدثات غريبة عليه، وتمنحه من أسباب القوة والجاهزية المستمرة التي تؤهله لصد كل ما يمسّ أو يهدّد ترابط مكوّنات منظومة العمل الخليجي، سواء الداخلية والخارجية، الآنية منها والمستقبلية.

* نائب القائد العام لشرطة دبي سابقًا، مستشار قانوني ولواء (متقاعد)