هل يتوجب إيجاد آليات محدّدة لمواجهة الاختلافات السياسية بين بعض أعضاء مجلس التعاون الخليجي؟

نعم.. يجب تفعيل «هيئة تسوية المنازعات» داخل «المجلس»

TT

نتيجةً لتشكيك كثيرين بفكرة الوحدة العربية الشاملة واستحالة حدوثها، بعد التجارب الوحدوية الفاشلة المتتالية، وضمانةً لمواجهة التحديات الضخمة التي واجهتها الوحدات السياسية العربية في ظل «الحرب الباردة» وتداعياتها الأمنية الخطيرة على الاستقرار والسلم الداخلي القطري، ظهرت فكرة التنسيق والتكامل بين الدول العربية المتشابهة في أنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ودرجة نموها، وذلك من خلال تكتلات أخذت تسمية «مجالس تعاون».

كانت البداية ظهور «مجلس التعاون لدول الخليج العربية» في مطلع الثمانينات بمبادرة من دولة الإمارات العربية المتحدة، ودعم من المملكة العربية السعودية والكويت تحديدًا. وكان من ضمن الدروس التي خرج بها المواطن العربي من تجارب مجالس التعاون العربية:

- أن «الوحدة العربية الحلم» صار أبعد من أي وقت مضى.

- وأن التكامل والتنسيق ما بين الأنظمة المتشابهة جغرافيًّا وتاريخيًّا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيًّا وثقافيًّا هو الطريق الأسلم نحو الوحدة، والفكرة الأقدر على البقاء والديمومة.

- وأن الآيديولوجيا وتبايناتها هي «القشة التي تقصم ظهر» فكرة الدولة - الأمة عربيًّا.

غير أن الدرس الأهم كان سقوط الشعارات الراديكالية المحرّضة على هدم أسس الدولة الوطنية القُطرية (بضم القاف) في سبيل سراب اسمه «الأمة العربية» أو «الدولة الإسلامية الواحدة». ولقد تمكن تكتل «مجلس التعاون الخليجي»، الذي، خلافًا لمجالس التعاون الأخرى - التي سرعان ما انفرط عقدها أو تجمّدت أنشطتها - تمكن من الصمود نحو ثلث قرن في مواجهة كل الأزمات والحروب والمؤامرات التي شنت ضده من أطراف شقيقة وغير شقيقة، لكنه مع بالغ الأسف والألم، يشهد اليوم للمرة الأولى تباينًا غير مسبوق في سياسات أعضائه حيال عدد من القضايا الداخلية والخارجية المتداخلة. وهذا الأمر إذا ما تُرك من دون علاج قد يتفاقم ويؤدي إلى انفراط العقد، لا سمح الله.

مصدر هذا التباين ليس الخلافات الحدودية أو الحساسيات الخاصة بالسيادة على الثروة أو خشية بعض النخب على امتيازاتها، كما كان الحال في الماضي، وإنما مصدره عوامل جديدة نابعة من المتغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة وتداعياتها على الأوضاع الداخلية، وبالتالي، على العلاقات البينية الخليجية - الخليجية. فمثلا لا يمكن الحديث عن الشرخ الذي أصاب هذه العلاقات من دون الإشارة إلى التدخّلات والضغوط الأميركية والأوروبية في الشأن الخليجي، وسياسات إيران التوسّعية المتربّصة بدول الخليج العربية عبر دسّ أنفها في الشأن الخليجي الداخلي، وتفتيت النسيج الاجتماعي ببذر بذور الطائفية المقيتة، ودور جماعات الإسلام السياسي - التي لا تؤمن بالدولة الوطنية القُطرية أصلًا - في التحريض والتأليب ضد الأنظمة الخليجية الحاكمة، ناهيك من عودة الجماعات الجهادية المتطرفة المرتبطة بأفكار تنظيم القاعدة للتحرك من أجل خلق بيئة من الفوضى التي تمكنها من تنفيذ أجنداتها الظلامية المتوحشة.

من هنا نقول... نعم! يجب أن تكون هناك آلية لحل الخلافات وتباين وجهات النظر بين أعضاء مجلس التعاون. ومنطلقنا أنه في كل التكتلات الإقليمية والعالمية لا يمكن توقع تطابق آراء الأعضاء بعضها مع بعض في كل الملفات. وبعبارة أخرى، قد تتشكل توافقات عامة حول الخطوط العريضة للتصدي لأي مشكلة أو أزمة، أو لتنفيذ مشروع مشترك ما، أو للتعامل مع طرف أو أطراف أخرى، لكن هذا لا يمنع من بروز تحفّظات أو وجهات نظر معترضة على جزئية أو فقرة معينة من قرار ما من قبل هذا العضو أو ذاك، الأمر الذي قد يحمل معه بذور خلافات وتوترات وتبادلا للاتهامات تعوق العمل المشترك. ولهذا السبب حرصت مواثيق معظم التكتلات الأجنبية على اشتراط الأغلبية لصدور القرارات واتخاذ المواقف السياسية، ما منحها مرونة في أعمالها، بعكس التكتلات العربية، كجامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي اللذين تشترط مواثيقهما الإجماع.

والحقيقة أن المادة العاشرة من النظام الأساسي لإنشاء «مجلس التعاون لدول الخليج العربية» نصّت على ضرورة وجود ما أطلق عليه «هيئة تسوية المنازعات» كجهاز تابع للمجلس الأعلى لمجلس التعاون، وكان الغرض منه وقتذاك المساعدة في إيجاد تسويات وحلول مقبولة للخلافات الحدودية القديمة بين الدول الأعضاء. غير أن هذا الجهاز لم ينجح في إنجاز أي عمل لسبب بسيط هو أنه لم يرَ النور، بل ظل مجرّد حبر على ورق.

وطالما أن هذا النص موجود في النظام الأساسي، وطالما أن هناك أمورًا ومستجدّات تستدعي إحياء فكرته، لِمَ لا يُصار إلى تحويل الفكرة إلى واقع عبر إنشاء «هيئة تسوية المنازعات» تحت هذا الاسم أو أي اسم آخر... مع تطوير وتوسعة أهدافه بشكل يتلاءم مع متطلبات الوضع الحالي لمجلس التعاون، الذي يتطلع قادته وشعوبه اليوم إلى شكل من أشكال الاتحاد؟

ونختتم بالقول إن التنسيق والتعاون وتوحيد السياسات الأمنية والدفاعية والخارجية والجهود الدبلوماسية والإعلامية من الأمور الضرورية والملحّة لمواجهة التغيّرات الهائلة في المحيط الإقليمي لدول الخليج والجزيرة العربية. وبالتالي، يُفترض أن يكون هناك جهاز يسارع فورًا، ومن تلقاء نفسه، إلى تقريب وجهات النظر عند بروز أدنى خلاف أو نزاع، أو أن تكون هناك آلية استرشادية متفق عليها لحل الخلافات البينية من دون انتظار عقد القمم السنوية أو الدورية، أو قيام الوسطاء برحلات مكّوكية ما بين العواصم المتنازعة.

* الأكاديمي والكاتب البحريني