وهل ترى ملامح إنهاك إيراني يفضي إلى تسهيلها تسوية سياسية في سوريا؟

لا .. مع تأكيد المعطيات حجم الإنهاك... ليس ثمة مؤشرات لتغير في موقف طهران

TT

كل المعطيات الميدانية تؤكد أن إيران تعاني إنهاكا في سوريا، ولكن ليس ثمة مؤشرات حقيقية على كونها تريد تسوية سياسية حقيقية تؤدي إلى حل مستدام في سوريا. فها هي مستمرة في العمل العسكري لنصرة دميتها في دمشق، وفي الوقت نفسه تدعي أنها مستعدة لما تصفه بـ«حل سياسي». ولكن، كل ما يندرج تحت «حلول سياسية» تقدمها القيادة في طهران أو تزعم أنها جاهزة للتعاون معها في الوقت الحالي - هي مبادرات تعيد «شرعنة» بشار الأسد ونظامه، وتعيده إلى حيث كان قبل الثورة... مع تعديلات شكلية لا تقدم ولا تؤخر.

إن السبب الجوهري لانعدام رغبة إيران في، أو عجزها عن، تبني ودعم حل سياسي حقيقي يحقق مطالب الشعب السوري ويحفظ مصالح الدول الإقليمية، بما فيها مصالح إيران نفسها في سوريا، هو معرفتها أن ما يسمى «نظاما» في دمشق عبارة عن «هرم مقلوب». أي إنه قائم على رأسه وليس على قاعدته. «رأس الهرم» هو بشار الأسد الذي يمثل عائلته والمقربين منها ومصالح إيران في سوريا، وأي حل سياسي حقيقي يتطلب تغيير الرأس؛ أي بكلام آخر انهيار نظام الحكم كليا وضياع أي فرصة لضمان مصالح إيران في سوريا.

بناء على هذا التحليل، تفضل إيران أن تدفع ثمنا باهظا... وتتأقلم مع الإنهاك، على أن تمنى بخسارة كبيرة تخرجها من سوريا جراء أي حل سياسي حقيقي في سوريا والمنطقة.

وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن الإنهاك الإيراني لا يعني أبدا أنها تتراجع في سوريا... بل على العكس. فهي تتحول من محتل غير مباشر إلى محتل مباشر يدير الأمور، ليس فقط في النواحي العسكرية، بل في كل النواحي السياسية الداخلية والأمنية وغيرها. وكما لوحظ أنه في «الهدنة» التي عقدت في مدينة حمص - مثلا - كان المفاوض الحقيقي الجانب الإيراني من جهة النظام... مقابل الثوار في الجهة المقابلة. ثم إن غالبية الحواجز العسكرية التي تنصب داخل المدن لا يعود للنظام أي سلطة عليها، بل تعود السلطة إلى إيران من خلال ميليشيات عراقية أو حزب الله أو «الشبيحة»، وكلها جماعات يديرها «الحرس الثوري».

ولا يقتصر التمدد الإيراني داخل سوريا «رغم الإنهاك» على الجانب الميداني وحده، بل يظهر حتى على السياسة الخارجية. والجميع يتذكر أن السيد الأخضر الإبراهيمي عندما كان بحاجة إلى موقف سياسي واضح من «النظام السوري» كان يزور طهران وليس دمشق.

إذن، تتمسك إيران تحديدا ببشار الأسد في سوريا، لأنها تعلم أن «النظام هو الأسد» و«الأسد هو النظام»... وهذا ما صعد الأزمة السورية وحال دون حلها في مراحل أولى. وعليه، كان الجيش والأمن و«شبيحة» النظام ومرتزقته يرفعون شعار: «الأسد أو نحرق البلد»، لأن ولاء هذه الأطراف كان للأسد وليس للبلد. هذه نقطة تعرفها إيران تماما، بل عملت على تثبيتها طوال سنوات طويلة قبل الثورة.

إن النفوذ الإيراني في سوريا لم يكن قائما على مبدأ تعاون ثنائي بين بلدين بمقدار ما كان علاقة سيد وتابع أو صانع وصنيعة، وزوال هذه الصنيعة يعني زوال العلاقة. ثم إن هذه العلاقة الضيقة وضعت إيران في حرج وحالة استنزاف، وبمقدار عجز إيران عبر سنوات طويلة عن تطوير علاقتها بسوريا لتتجاوز عائلة الأسد (وتوسيعها إلى أفق أوسع لتضم شخصيات متعددة) بمقدار ما تشعر بضيق الخيارات أمامها اليوم. هذا الوضع دفعها إلى خوض معركة الاستنزاف والعمل من خلالها على توسيع أفق ربط مصالحها ببدائل داخل النظام، أو حتى محاولة بناء منظومات جديدة داخل سوريا تتجاوز عائلة الأسد. ولكن، ليس من المتوقع أن تتبلور مثل هذه النتائج بشكل سريع في الوقت الحالي. ولتوضيح المشهد، يمكن إجراء مقارنة بسيطة، إذ يعد مراقبون إيران مثلا لا تتمسك بنوري المالكي بمقدار تمسكها ببشار، وستضحي به قريبا، والسبب أن علاقات إيران ورقعة نفوذها في العراق واسعة وكبيرة ومتنوعة وتتضمن الكثير من البدائل والخيارات من السياسيين والمرجعيات الذين سيحافظون على مصالح طهران في وجود المالكي أو غيابه، وطبعا القاعدة الشعبية تأتي كتحصيل حاصل؛ إذ تتبع هذه القاعدة مرجعياتها في العراق.

أما في سوريا، فليس خفيا على أحد أن إيران لا تحظى برصيد شعبي ذي شأن، ليس فقط داخل المناطق الثائرة والحيادية، بل حتى في المناطق المؤيدة للنظام... ومنها الطائفة العلوية، التي بدأت تشعر بخطر المد الإيراني على مستقبل وجودها أكثر من أي مكون سوري آخر.

وعليه، تدرك سلطات طهران أنها تستند في الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في سوريا على نظام متمثل بشخص بشار الأسد. ومن ثم، كل ما تطرحه هو مبادرات؛ إما «تشرعن» بشار من جديد وإما تساعدها على التأقلم مع الاستنزاف والإنهاك... بأمل أن تطور بدائل على المدى المتوسط تؤدي إلى توسيع نفوذها داخل سوريا واصطناع مرجعيات وقيادات عسكرية وسياسية مرتبطة بها بشكل مباشر، وبدورها تستطيع ضمان المصالح الإيرانية في حال وصلت الأمور إلى مرحلة التخلي عن بشار فتكون هذه القيادات ضامنا لنفوذ طهران في المستقبل. وفي هذا الإطار، سمعنا عن محاولات لتحويل عصابات «الشبيحة» (قوات الدفاع الوطني، كما يحلو للنظام تسميتها) إلى منظمة قائمة على نمط حزب الله اللبناني ولكن بصيغة سورية... يصار إلى زرعها في جسم سوريا الجديدة، أي مرحلة سوريا من دون الأسد.

إن الحديث عن حل سياسي ضمن الوضع الحالي يعني انتحار الثورة ومن يقف بجانب الثوار... ما لم يكن حلا مدعوما بفرض «أمر واقع» جديد على الساحة الميدانية ويتمثل بانتصارات عسكرية تجبر الإيرانيين على القبول بمرحلة جديد لا يكون نفوذهم فيها كما كان. أي إن الحل السياسي يبقى في إطار الوهم من دون تسليح «الجيش الحر» كما ونوعا... مما يتيح قلب الموازين العسكرية بشكل جذري.

* كاتب وباحث سوري مقيم ببريطانيا