هل هناك معنى للانتخابات اللبنانية في ظل الأحزاب والتكتلات المذهبية؟

نعم- ..لأنه يستحيل مواجهة المذهبية والطائفية من خارج الانتخابات

TT

الانتخابات النيابية حق وواجب وضرورة وحلقة من حلقات قانونية وثقافية واجتماعية واقتصادية وتربوية مترابطة تشكل بمجملها مسار العملية الديمقراطية في الدول. وهي في الوقت نفسه ركائز يقاس من خلالها تطور نظام الحكم الديمقراطي، ومدى قدرة العملية الانتخابية في الدفع نحو حياة سياسية حيوية وفاعلة تقوم على تداول السلطة وتنظيم الصراع داخل الدولة وتيارات المجتمع، بهدف تحقيق غاية الحكم بأقل النظم سوءا بحسب التعريف المتداول للنظام الديمقراطي.

في لبنان ثمة مشهد سياسي وانتخابي معقد، تتحكم في تضاريسه وألوانه جملة مؤثرات، فإلى حال الاستقطاب المذهبي والطائفي المشغول بحرفة سياسية خبيثة، عبر توسل التيارات السياسية الرئيسة شد العصب المذهبي والطائفي، على حساب العدالة والمساواة وبناء دولة المواطن. وهي تغالي في استجداء الغرائز الوضيعة على حساب المنطق والأمن ووحدة المجتمع وسيادة القانون. هكذا تقدم الطبقة السياسية ثقافتها في الشأن العام. إنه السلوك الميليشيوي تمارسه بكل موبقاته من أجل الإمساك بالسلطة ولو على الركام. إذ يكاد اللبنانيون عموما يتحولون إلى ركام، من بقايا قيم وطنية، ومن مخلفات القواعد الأخلاقية، كأنما عاصفة صفراء مرت على اللبنانيين وحولتهم إلى أجساد منهكة، وأرواح مشوهة بنزعة الإلغاء وحال الاحتضار. إلى مجتمع غارق في معارك وأوهام لا تستجلب له غير الخيبة والدمار. لكن مؤثرا آخر، لا يخلو من روح التمرد التي لا تزال تصر على مقاومة شيطنة السياسة والمجتمع، تلك الشياطين التي تريد للسياسة أن تهبط في مضمونها وسلوك السياسي إلى الأدنى في سلم القيم، ليساق المجتمع بعد ذلك إلى حيث يشاء له ذئاب الطائفية والسلطة. تمرد يباغتنا أحيانا عبر روح التحدي التي تحرص على تذكير المواطن أنه في المكان البائس ولو كان محاطا برايات الانتصار الوهمي. تمرد فردي وجماعي مدني يذكرنا بأننا مواطنون وأننا ننتمي إلى قيم إنسانية.

تمرد يقول بصوت عال، إنه لا انتصار في معركة قهر الشريك في الوطن، ولا انتصار يتحقق في غلبة طائفية من هنا أو هناك، بل ليس من الوطنية ولا من الإنسانية أن لا يتساوى الناس في الحقوق والواجبات كما هم كذلك متساوون في عين الله.

الانتخابات النيابية في لبنان توفر فرصة في ظل الاحتراب الطائفي، للانقلاب على غاياتها الديمقراطية، إذ كلما أوغلت السياسة في وحول الطائفية والمذهبية شكل الخطاب الطائفي فرصة لتقويض أسس المحاسبة في الانتخابات، وتراجع حظوظ رجل الدولة في النظام اللبناني في التمثيل البرلماني، لحساب تقدم ونفوذ رجل الطائفة في الدولة. باعتبار أن النظام الطائفي يكافئ الطائفيين كلما ازدادوا طائفية ويعاقب رجل الدولة لأن ليس من مواصفاته انشداده إلى عصب الدولة لا إلى عصب الطائفة.

ولكن هذا التوصيف لا يدفعنا بطبيعة الحال إلى اعتبار الانتخابات النيابية في لبنان لا معنى إيجابيا لها في مسار بناء الدولة العادلة وتنظيم الاجتماع السياسي وتحديثه على أسس المواطنية. فعلى رغم محاصرة الاستحقاق الانتخابي بفائض من الصراع والخطاب المذهبي، وبقوانين تستدرجهما، فإن مواجهة مرض المذهبية والطائفية - كما يسميه معظم اللبنانيين - لن تتم من خارج الانتخابات، لأن العنف والتغيير القسري خبره اللبنانيون في حروبهم وحروب الآخرين على أرضهم. ويعرفون أنه ينحدر بالواقع نحو الأسوأ. لذا كما يقال إن سيئات الحرية لا يمكن الحد منها إلا بالحرية نفسها، والانتخابات لا يمكن الحد من نتائجها السلبية إلا بالانتخابات بالسعي إلى ترسيخ قواعدها الديمقراطية وشروطها الصحيحة. فالانتخابات هي استحقاق واجب الاحترام وهو ستظل السبيل الأسلم والأقل سوءا من أي سبيل آخر. فالديمقراطيات لم تحقق نموذجها في الغرب فجأة، والعملية الانتخابية في بلادنا لا يمكن أن تحقق أهدافها إلا بتراكم التجربة والخيبة والنجاح والخبرة.

أما عن العلاقة مع الخارج، فليس خافيا أن بعض اللبنانيين يرتضي توافقا خارجيا على قانون الانتخاب في بلده، ولا يخجل من إظهار رفضه أو عجزه عن صوغ مثل هذا القانون مع شريكه في الوطن بمعزل عن هذا الخارج. وفي المقابل، يساهم التدخل الخارجي في خلق نظام مصالح داخلي لا يجعل المتفاعلين معه في حاجة ملحة لتعزيز التوافقات الداخلية، باعتبار أن التوافق هو ابن التسويات، أي يستبطن الاستعداد لتقديم التنازلات المتبادلة في سبيل المشترك.

أيهما الأسبق عدم التوافق أم التدخل الخارجي في لبنان؟ الإجابة أقرب إلى السؤال الشهير أيهما أسبق على الأرض الدجاجة أم البيضة؟

بالتأكيد ثمة جدلية في العلاقة بين الانقسام الداخلي في لبنان والتدخل الخارجي. وهذه يصعب الحسم النظري بها فضلا عن الحسم التاريخي. لكن ذلك لا يعني بطبيعة الحال أن الجامع المشترك بين اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم الطائفية والسياسية منعدم، إذ يشكل الانتماء إلى لبنان الوطن والدولة حقيقة تزداد ترسخا في الوعي الفردي والعام رغم الاستقطابات الحادة. يجب أن نذكر أن لبنان ظل في وعي فئة واسعة من اللبنانيين لعقود قليلة ماضية لا يستحق أن يكون دولة ولا وطنا مستقلا. هذا القول لم يعد في لبنان من يتبناه أو يدعو إليه. فكرة لبنان وطن نهائي راسخة في وعي كل مواطن أو جماعة لبنانية.

* كاتب سياسي وإعلامي لبناني