... وهل يشكل التوافق اللبناني، إذا تحقق، حاجزا أمام التدخل الأجنبي؟

نعم- متى توافق اللبنانيون يصعب على أي قوة في العالم أن تخرق مجتمعهم وأمنهم

TT

التوافق، بل الحياة الميثاقية في لبنان، ببساطة، فلسفة الوجود اللبناني. وهذا التوافق لا يحمي لبنان فحسب، بل من دونه لا يوجد كيان لبناني واحد. إن التوافق هو صنو الديمقراطية في لبنان طالما أن هذا البلد مكون من أديان وطوائف ومذاهب أكثر مما هو مكون من شعب واحد. لكن هذه التعددية التي يفترض أن تكون غنى للبنان، كانت الثغرة التي تسللت من خلالها كل الأزمات والصراعات العربية والإقليمية والدولية. فعوض أن تتحول هذه التعددية إلى حالة متكاملة، جعلتها هذه الصراعات تعددية متناقضة مما يعرض لبنان، في ظل ما يجري في المنطقة، لخطر الانتقال من التعددية إلى الانقسام فالتقسيم.

لذلك، لا بد للبنانيين من أن يجلسوا معا ويقيموا تجربة «الصيغة اللبنانية» ويجددوا ميثاق إرادة العيش المشترك لا الوجود المشترك على أرض واحدة. وأبجدية «الميثاق الوطني» هي الاتفاق على إعلان حياد لبنان. إذ حين يتفق اللبنانيون على هوية بلادهم ودورها في محيطها والعالم يتفقون حكما على وحدة وطنهم. ومتى توافق اللبنانيون يصعب على أي قوة في العالم أن تخرق حدودهم ومجتمعهم وأمنهم واستقرارهم واستقلالهم. والدليل أن كل الأحداث الأمنية الجارية اليوم من جنوب لبنان إلى شماله، ومن ساحله إلى سهله هي نتيجة الانقسام فيما بين المكونات اللبنانية على ثوابت الوجود اللبناني. وإلا فما تفسير أن يقاتل فريق من اللبنانيين إلى جانب الجماعات المناهضة للنظام السوري، وفريق آخر إلى جانب أهل النظام؟

وأعتقد أن الفرصة سانحة مع استقالة الحكومة ليجتمع اللبنانيون حول رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة الجديد ليلتقوا معا في حكومة سياسية تحيد لبنان وتؤكد وحدته لأن العواصف الآتية لا تواجه إلا بالوحدة.

واللافت أن كل طرف لبناني يتحدث إيجابيا ولكنه لا يترجم الكلام فعلا سياسيا ووطنيا. ولذلك أنا خائف على لبنان اليوم أكثر من خوفي عليه حين كانت الحرب مندلعة. لقد خرجنا من حروب الآخرين على أرضنا، فهل نخرج من حروب الآخرين على أرضهم؟

أما عن الانتخابات النيابية فإن حصولها ليس مرتبطا بنوعية الأحزاب، بل بنوعية النظام. ومع أن الانتخابات وحدها ليست معيار الديمقراطية، لا سيما بعد انتخابات الأنظمة الجديدة المؤقتة في بعض الدول العربية، فإنها حلقة أساسية في أي نظام ديمقراطي. وبالتالي، لا بد من إجراء انتخابات نيابية في لبنان الذي يُعتبر نظامه، على الرغم من كل شوائبه، أول ديمقراطية اللبنانية في العالم العربي.

لكن الديمقراطية اللبنانية ليست مبنية حصرا على أساس حزبي، كما هي الحال في الديمقراطية الغربية، إنما على سلة طائفية ومذهبية فريدة هي مزيج من العشائر والقبائل والعائلات والأفراد والأحزاب. ولا تزال الأحزاب الديمقراطية، بالمفهوم العلمي والعلماني لهذه الكلمة، الحلقة الأضعف في لبنان أمام القوى التقليدية أكانت فردية أم جماعية. وإذا كانت الانتخابات النيابية مشوهة النتائج - ولو أجريت بشكل نزيه - فلأنها لا تحصل على أساس تنافس حزبي منظم. ومن الصعب أن نصل إلى منظومة حزبية لبنانية متكاملة ما لم تخرج غالبية الأحزاب من انتمائها المناطقي والطائفي والمذهبي، أو أن تتأسس أحزاب كبرى مختلطة الانتماء الطائفي والمناطقي.

لكن من أين للبنان بهذه المنظومة والتعصب والتطرف والتكفير وإلغاء الآخر على ازدياد في لبنان والمنطقة؟

بانتظار حصول هذا التطور المأمول، لا بد من حصول انتخابات على كل مستويات الدولة من بلدية ونيابية ورئاسية؛ وإلا يتعطل تداول السلطة. وبالنتيجة إن اللبنانيين يستحقون الطبقة السياسية القائمة، وهي - في معظمها - طبقة فاسدة وأنانية ومتسولة، لأنهم هم من أتى بها عبر انتخابات متتالية وسيفعلون الشيء نفسه في الانتخابات المقبلة. لم يبذل اللبنانيون أي جهد لتغيير طواقمهم السياسية لا عبر صناديق الاقتراع ولا عبر الشارع. والمؤسف أن اللبنانيين الذين قاوموا الاحتلالات العثمانية والفرنسية الإسرائيلية والسورية وغيرها طوال عقود وعقود، لم يكلفوا أنفسهم عناء مظاهرة واحدة لتغيير طبقتهم السياسية. لا بل يشكون منها ثم يعيدون انتخابها في أول مناسبة.

إن اللبنانيين يدافعون عن وطنهم لكنهم لا يبنون دولتهم، يرفضون لكنهم لا يثورون. إنها ظاهرة تحتاج إلى بروز «مستبد عادل» في لبنان يقلب الطاولة على الجميع ويغير على طريقته، لا الدولة والسياسة فحسب، بل الذهنية والأخلاق والمجتمع والسلوك كما فعل أتاتورك في تركيا. فلا نخاف ونتباكى على الديمقراطية في لبنان، فهي أساسا ديمقراطية مع وقف التنفيذ منذ سنة 1975. لدينا نظام ديمقراطي لكن ليس لدينا ممارسة ديمقراطية.

* نائب رئيس حزب الكتائب اللبنانية