هل هناك مشروع سياسي سنّي في وجه التمدّد الإيراني؟

نعم- ... بل مشروع مزدوج لمواجهة النزعة الإمبراطورية الإيرانية ولحفظ الدولة العربية

TT

الصراع بين إيران والدول العربية ليس جديدا. وحين سمّى صدّام حسين، والخطابُ الرسمي العراقي، حربَ العراق مع إيران في ثمانينات القرن الماضي باسم «قادسية صدّام»، كان يريد أن يضع هذه الحربَ في سياق صراع يعود إلى بواكير الإسلام والفتوحات الإسلامية، وأن حرب الثمانينات هي نقطة متجددة في هذا الصراع. ولكن هذا، أيضا وقبل ذلك ربما، يكشف عن شعور عربي عميق بأن الصراع مع إيران هو صراع تاريخي أزلي.

وقد شهد القرن العشرون موجات من هذا الصراع، ولكن في كل مرة يُعاد تعريف الصراع وهوية المتصارعين: مرة بأنه صراع قومي إيراني عربي، ومرة بأنه صراع آيديولوجي بين إيران الإسلامية والدول العربية العلمانية، وأخيرا بأنه صراع طائفي بين إيران الشيعية والدول العربية السنّية.

الصراع، كأي صراع، هو على خطوط المصالح والنفوذ، غير أن الهوية تكسبه روحا آيديولوجية ونفحة مقدّسة. إن الهوية نفسها، من حيث هي مشروع سياسي وثقافي، تُبنى في لحظات صراع، كهذا. الهوية ليست معطى تاريخيا معلّقا في الفراغ. محتواها وحدودها ترسمها ديناميكية سياسية، تنتقي عنصرا محددا من كل الهوية المركّب لترسم به حدود الصراع. وهكذا، مع كل موجة من موجات الصراع بين إيران والعرب، كانت تتعاقب موجاتُ الهوية بتعريف جديد: إيران والعرب، هم إثنية تارة، وطائفة تارة أخرى، وآيديولوجيا سياسية تارة ثالثة.

وأنا أزعم أنه لم ينبنِ مشروع عربي لمواجهة إيران، يدور على الهوية السنّية، إلا ما بعد 2003. وعلى نحو عام، لم تواجه الدولةُ العربية الحديثة ظاهرةَ التشيّع بوصفها تحديا استراتيجيا كبيرا كما حدث بعد 2003. ومع أن الهاجس الطائفي لم يغادر الدولَ العربية عبر تاريخها، يوحي الكمُّ المطرد من التوترات الطائفية التي حدثت في المنطقة منذ تلك السنة بأن هذه الدول كأنها تواجه المسألة الشيعية للمرة الأولى.

الظاهرة الشيعية تشكّلت ما بعد 2003، وشكّلتها ثلاثة عناصر رئيسة: الأول هو الطموح الإمبراطوري الإيراني للسيطرة على منطقة الشرق الأوسط. والثاني ظاهرة حزب الله بدءا من تحرير جنوب لبنان سنة 2000، وحتى «حرب تموز» يوليو 2006، التي وصلت «كاريزما» حسن نصر الله فيها إلى الذروة. والثالث، والأهم، هو التغيير السياسي الذي حصل في العراق، وأفضى إلى سيطرة النخبة السياسية الشيعية على مقاليد الحكم، لأول مرة، في واحدة من أهم وأكبر عواصم المشرق العربي. وبالفعل، أعطى تصدر الشيعة لحكم العراق دفقة قوية للشعور الشيعي في سائر أنحاء العالم، ولا سيما في المنطقة.

ومع ذلك، يبدو لي أن الأكثر حساسية في التجربة العراقية ليس سيطرة الشيعة على الحكم في العراق، بل طبيعة النظام السياسي الذي بُني في عراق ما بعد صدّام، الذي لا يقوم على الأنموذج القومي الكلاسيكي، بل على الأنموذج التعددي، الذي يعني - ضمنا - الاعتراف بسائر الهويات الثقافية التي تتشكل منها البلاد. وفي كل الأحوال، أطلقت الظاهرةُ الشيعية خوفا عميقا من إمكانية الانقلاب على التوازنات، التي أرستها الدولةُ العربية الحديثة. ولقد عبّرت عن هذه «الفوبيا» شخصيات عدة من قادة المنطقة وساستها، وكان الأبرز في ذلك التصريح الشهير للملك عبد الله الثاني، عاهل الأردن، عندما حذّر في أواخر 2004 من «مشروع هلال شيعي».

لقد تبنّت الدولةُ العربية المشرقية قراءة للظاهرة الشيعية الصاعدة، بأنها امتداد للنزعة الإمبراطورية الإيرانية، وأن النخب الشيعية العربية الصاعدة هي أدوات لهذا المشروع. ومثلما ذاع تصريح «الهلال الشيعي»، ذاع أيضا تصريح للرئيس المصري السابق حسني مبارك، أواسط 2006، عن أن شيعة المنطقة يدينون بالولاء لإيران، وليس لدولهم.

وبقدر ما ضيّع العربُ فرصة قراءة مغايرة لموقع الشيعة العرب من الصراع العربي الإيراني، فإن ظهور عناصر عربية في المشروع الإمبراطوري الإيراني (العراق، سوريا، حزب الله، شيعة الخليج)، استنادا إلى القراءة العربية السنّية، هو الذي أفضي إلى إعادة تعريف الصراع بين العرب وإيران بأنه صراع طائفي محض. وهذا يعني أن المحوَر المواجِه للمحور الشيعي - الذي مصدرُه أو تقوده إيران - يجب أن يكون محورا سنيّا، بالضرورة، وهو يمكن أن يضم كل عناصر المواجهة للمحور الشيعي الإيراني. هذا المحور هو ما يمكن أن نسمّيه «السنّية السياسية». وبالمقابل، انخرطت النخبُ الشيعية العربية في التأويل الطائفي لشفرة الصراع، فانجرفت نحو المحور الإيراني، لتفرط بكل الإمكانيات التي تحوزها وتؤهلها للعب دور مغاير في هذا الصراع. ولعل المثال الأوضح لهذا التيار الجارف هو رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، الذي لم يكتف بوضع العراق في المحور الشيعي الإيراني، بل بدأ ينظر إلى الفرقاء المحليين بوصفهم ممثلين لمحور عابر للحدود.

إذن، تحمل «السنّية السياسية» مشروعا مزدوجا: مواجهة النزعة الإمبراطورية الإيرانية، من جهة، والحفاظ على تقاليد الدولة العربية، من جهة أخرى. وقد حدّد هذا المشروعُ ردودَ فعل الدول العربية من «الربيع العربي»: إن صعود الإسلاميين إلى الحكم، ما بعد «الربيع العربي»، قد يسمح بشكل من أشكال النفوذ الإيراني في المشرق العربي. ومن ثم، سيعمل إحياءُ فكرة الخطر الطائفي الإيراني على مواجهة هذا النفوذ المحتمل، من جهة، ومواجهة الموجة الديمقراطية الصاعدة، من جهة ثانية.

لقد كان «الربيع العربي» نقطة جديدة في الصراع العربي الإيراني، ولقد انفتح، بوضوح، على صراع (إيراني شيعي/ عربي سنّي). بل ودخل هذا الصراع مرحلة مسلحة في سوريا، فالموقف من الثورة السورية كان، في أحد مستوياته، صراع إرادتين، عربية وإيرانية، والموقف من نظام الأسد كان، كذلك، موقفا من المحور الإيراني الشيعي، صموده، أو انكساره.

غير أن السنّية السياسية لا تزال مستغرقة بمنطق الصراع، وخنادقه المتقابلة بحدة، من دون التمهّل للتفكير بشكل آخر لإدارة الصراع، يبصر بالتداخل المعقّد للخنادق، على الرغم من أنها تبدو منعزلة وثابتة.

* باحث وكاتب سياسي عراقي