... وهل المواجهة حتمية بين منطق «المهادنة» الإخواني ومنطق «التصدّي» الجهادي؟

نعم- ... المواجهة حتمية بين تياري المهادنة والرفض

TT

أكدت أشرطة الفيديو التي بثّتها الفضائيات والمواقع الإلكترونية العالمية حول إطلاق صواريخ من قبل مسلّحي «الجيش الحرّ» السوري على مواقع حزب الله اللبناني أن المواجهات السياسية والمسلحة بين فصائل من «تيارات الإسلام السياسي الراديكالية» أصبحت أمرا واقعا وخيارا حتميا.

وتزداد خطورة سيناريو المواجهة العنيفة داخل التيارات الإسلامية، إذا سلّمنا أن الغالبية الساحقة من الشباب والمثقفين والسياسيين والنشطاء الذين آمنوا يوما بـ«الاتجاه الإسلامي المعاصر» وجدوا أنفسهم مهمّشين و«تائهين» بين التيارين الجهادي «المتشدد» والإخواني «المهادن».. بين قناعاتهم «الطوباوية» وتناقضات «لوبيات مصالح ونفوذ» جلها مهددة بالفشل وجر المنطقة نحو مزيد من «الفوضى الخلاقة»..

ومن خلال استقراء المستجدات في المشهد السياسي والديني في المنطقة العربية، من الخليج إلى المحيط، يلاحظ تزايد تأثير التيار الأول.. أي التيار «الجهادي المتشدد» القريب من الجماعات «الجهادية» وبعض المقاتلين والانتحاريين المحسوبين على «القاعدة» ونظرائها.

هذا التيار يحكمه منطق «التمرد» على كل المرجعيات الدينية والسياسية والفكرية. منطق رفض «الثوابت» والقيم السائدة حاليا في المجتمعات والدول العربية والإسلامية.. ويتهم رموز هذا التيار «الصدامي» المجتمع بالشرك والكفر نتيجة ما يعتبرونه «تخاذلا عن فريضة الجهاد» بسبب التخلف عن محاربة إسرائيل وحلفائها الاستعماريين.. كما يدعو هؤلاء «الصداميون» إلى محاربة تاركي الصلاة «والمورطين في الفواحش والمعاصي» و«المنافقين» وينتقدون بشدة المقصّرين في تغيير المنكر المنتشر في «دار الإسلام».

أما التيار الثاني – القريب من مدرسة جماعة الإخوان المسلمين – فيسعى إلى «المهادنة السياسية» للسلطات والمجتمع والنخب العلمانية ووقف «النزيف» الذي تعرض له نشطاؤه طوال عقود وتسبب في تعرض أجيال من أنصاره إلى القمع والاضطهاد والتشريد وحملات الاغتيال المنظمة والخفية. وفي الوقت نفسه اختارت قيادات التيار الإخواني سياسيا «المهادنة» والتعامل ببراغماتية مع واقعها. ومنذ البركان الذي هزّ المنطقة بعد انهيار نظامي الرئيسين زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر دخلت قيادات هذا التيار في جل البلدان العربية في مرحلة «توافقات سياسية مع خصومها العلمانيين في الداخل والخارج وإن كان الثمن تضحيات مؤلمة» مثلما حصل في بلدان مثل تونس، حيث أعلنت غالبية قادة «حركة النهضة» رسميا موافقتها على عدم إدراج «تطبيق الشريعة» في نص الدستور الجديد.

لكن من أبرز التحديات التي تواجه زعماء حركة النهضة التونسية ونظراءهم الإخوانيين أنهم أصبحوا عرضة لانتقادات عقائدية وحملات تشهير آيديولوجية من قبل خصومهم المتشددين «الجهاديين» الذين تزايد تأثيرهم في صفوف الشباب خلال العقدين الماضيين. هؤلاء المتشددون لا يتورّعون في وسائل الإعلام والجوامع، التي انقلبوا على أئمتها وخطبائها، عن اتهام الزعامات التاريخية لتيار الإسلام السياسي، بالتخلي «عن ثوابت الشريعة الإسلامية». كما يتّهم هؤلاء المتشدّدون زعامات الإخوان المسلمين في المنطقة العربية بـ«المهادنة» وتقديم تنازلات «جبانة» لمن يصفونهم بـ«العلمانيين الكفرة» و«المشركين» والروافض والملاحدة الشيوعيين و«الوثنيين الجدد»..

ومن خلال قراءة تطور خطابات بعض زعامات التيارين الإخواني والجهادي يتضح أن «شعرة معاوية» قطعت بينها.

وإذ يشعر كثيرون من زعامات التيارات الوسطية والجماعات الإخوانية بـ«نشوة النصر» بعد فوزها بنسب كبيرة من أصوات الناخبين - لا سيما في تونس ومصر وليبيا والمغرب وفلسطين واليمن والعراق - فإن زحف المتشددين، وبالأخص الجهاديين منهم، بات واضحا.

ويبدو أن المواجهة غدت حتمية بين منطق «المهادنة» الإخواني ومنطق «التصدي» الجهادي لأسباب عديدة من بينها انتشار الأمية الثقافية والدينية في المجتمعات العربية الإسلامية والشباب المتدين في مرحلة تمر فيها المنطقة العربية والعالم أجمع بما يوصف بـ«صحوة إيمانية». والمعلوم تاريخيا أنه في كل الحالات عندما يتضخم البعد الروحاني الإيماني من دون تحسن للوعي المعرفي، تتضاعف فرص التشدد والتطرف والمواجهات والعنف والعنف المضاد. ويقترن تداخل الأوراق بين الإخوان المهادنين والجهاديين المتشددين بسبب انهيار المؤسسات العلمية الإسلامية القديمة أو تراجع تأثيرها مثل جامعة الزيتونة في تونس وجامعة القرويين في فاس وجامعة الأزهر في القاهرة.

إن معضلة غياب المرجعيات الدينية والعلمية المقنعة والكاريزماتية تستفحل يوما بعد يوم مع تزايد مؤشرات انتصار التيارات الصدامية والشق الأكثر تطرفا في صفوف الجماعات المتشددة على حساب المعتدلين ودعاة التوافق السياسي..

وبين ما يزيد الوضع تعقيدا اليوم ضعف الدولة المركزية - أو «الدولة الوطنية» - وتفكك المجتمع المدني في جل البلدان العربية.. وتحديدا فيما يسمى بلدان «الربيع العربي»..

وإذا لم تنجح جماعات الإخوان المسلمين التي وصلت إلى السلطة، كليا أو جزئيا، في بعض عواصم شمال أفريقيا ومصر في معالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية لشعوبها وشبابها فإن المتشددين الصداميين سيتابعون مواجهتها على جبهات جديدة من بينها اتهامها بإعادة صياغة «أنظمة في مرحلة تبعية اقتصادية شاملة»..إلى جانب التهجم عليها بحجة عجزها عن إعادة توحيد الأمة العربية والإسلامية التي قسمها الاستعمار مطلع القرن الماضي.

وتتوقع بعض التقارير المختصة في السياسة الدولية أن تلعب قوى إقليمية ودولية عديدة ورقة «التناقضات السنية والشيعية» لتوريط الجهاديين المتشددين والإخوان وحلفائهم في مواجهات عقائدية وسياسية وأخرى أشد عنفا، لتكريس واقع تراجع الدور العربي والإسلامي الإقليمي لصالح إسرائيل وتركيا وإيران وحلفائها.. بعدما نجحت خطة مزيد تهميش دور العراق ومصر وسوريا، وأجهض الاتحاد المغاربي وقبر مشروع الاتحاد المتوسطي في أيامه الأولى.

* إعلامي وكاتب تونسي