... وهل يتحمل الاقتصاد المثقل بالعقوبات الدولية صراع نفوذ طويل الأمد بين الجانبين؟

لا- لن يتحمل صراعا طويلا لأنه مريض.. وفي حالة خطرة

TT

ليس بمقدور الاقتصاد الإيراني تحمل الوضع الراهن لا بوجود الرئيس محمود أحمدي نجاد ولا في رئاسة من سيخلفه.

من دون شك كان للتوتر الحاصل بين المرشد الأعلى ورئيس الجمهورية تأثيرات سلبية على الاقتصاد أسهمت في تقريبه من حالة شلل. غير أن المشكلات التي يعاني منها الاقتصاد الإيراني تسبق حالة العداء الراهنة، ولا يجوز التعامل معها على أنها ناتجة من أخطاء طارئة أو غير محسوبة، ذلك أن ثمة عناصر بنيوية توضح بدرجة أكبر هشاشة وضع الاقتصاد الإيراني.

إن اقتصادا قابلا للحياة بجب أن يكون منتجا. أي أن يستوعب ما يدخله، ويتعامل معه، ثم يوزع الحصيلة بالقيمة الحقيقية المُضافة. إلا أن واقع الاقتصاد الإيراني هو أنه توزيعي - تقاسمي تحت إشراف فئات أو زمر مختلفة ذات غايات «تأجيرية».

أولا، يجري توزيع المنافع والأفضليات والامتيازات الاقتصادية في أوساط النخبة. وثانيا، يوزع القسم الآخر وهو الأصغر حجما بكثير، ومصدر معظمه من إيرادات النفط، على باقي سكان البلاد، كجزء من سياسة «زبائنية» معتمدة.

ولكن، في حين أن «التأجيرية» لها تاريخها الطويل في إيران، فإنها عرفت نقلة نوعية مهمة في «الثورة الإسلامية» عام 1979، التي أحلت نخبة جديدة في السلطة محل النخبوية الملكية. وتدريجيا، تشكلت «النخبة الجديدة» في البلاد من شبكات ملالي، ودوائر جماعات مسلحة، وبيروقراطيين حديثي نعمة، وتجار البازار المحافظين من الحلفاء القدامى للملالي، وأخيرا وجهاء وأعيان من دائرة المقربين الداخلية للنظام الجديد. وأتاح الموقع السياسي المهيمن لهؤلاء القدرة - ولو بشيء من الصعوبة - على تقاسم الامتيازات والأفضليات الاقتصادية فيما بينهم من دون أي منافسة من خارج إطار هذه «النخبة الجديدة» ودائرة نفوذها.

من جهة أخرى، فإن التنافس الشديد قائم بين الفئات أو الزمر المكونة لـ«النخبة الجديدة»، ولكن في غياب التنافسية السوقية اقتصاديا أو الانتخابية سياسيا. ذلك أن طبيعة التنافس هنا هو ذلك المصور ضمن مجمع واحد، ولقد تنبه علم السياسة لهذه الظاهرة واكتشف أنها نمط الحكم الذي ساد في دول كثيرة بعد انهيار «جدار برلين».

في هذه الحالة يتاح لفئات «النخبة الجديدة» وزمرها شراء العملات الأجنبية بأفضل أسعار صرف عندما تكون على علم بأسعار الصرف الرسمي في السوق الوطنية أو المحلية، وتتمتع باحتكار تجارة سلع بعينها محظور استيرادها على باقي فئات الشعب، وتخصيص عقود ضخمة وترسيتها من دون مناقصات رسمية، وتسلم وتسليم صادرات وواردات عبر موانئ «غير مرئية» بعيدة عن أنظار أجهزة الجمارك في البلاد.

«الزبائنية» هي شكل آخر من العواقب السلبية لـ«التأجيرية» في إيران. وبالتالي فإن بقاء النظام، القائم على الإيجار والتأجير، يحتاج إلى تجنب أي شكل من أشكال السخط الاجتماعي، ولا سيما في أوساط الطبقات الفقيرة التي لا يساعدها دخلها المحدود على شراء سلع لا ضبط لأسعارها. ثم إن نظام التقاعد في إيران بحاجة هو الآخر إلى التأييد السياسي من هذه الطبقات بالذات من أجل الصمود. ومن ثم، هناك حاجة إلى سياسة توزيعية شعبية تحظى بدعم ثابت من بعض الدوائر في إيران، كتلك التي تدعم الرئيس أحمدي نجاد.

بصفة رئيسة، فإن هذا «التأجيرية» التي تشكل طبيعة النظام الاقتصادية، والتنافس بين الفئات الحاكمة على الأفضليات والامتيازات، يشكلان العقبة الكأداء التي تمنع إيران من التمتع باقتصاد قابل للحياة ومن ثم بانتهاز الفرص التي توفرها «العولمة». ذلك أن تواضع النجاعة الاقتصادية والتخصيص «التأجيري» للموارد الاقتصادية لا يؤهلان البلاد للترحيب بالاستثمارات الأجنبية أو لتصدير سلعها المصنعة إلى الأسواق الخارجية.

أضف إلى ما تقدم، أنه وفق أرقام صندوق النقد الدولي يبلغ عديد العقول الإيرانية المهاجرة إلى الخارج سنويا ما بين 150 ألف و180 ألف مهاجر متعلم ومثقف، وهو ما يعادل 11 مليار دولار أميركي من القيمة الفكرية (الأرصدة الفكرية).

ولدى النظر إلى تجارب الماضي، قد لا يكون ثمة خلاف إذا قلنا إن الاقتصاد الذي أسسه نظام الثورة الإسلامية في إيران يشبه النظام الاقتصادي المتشدد الذي كان معتمدا في الاتحاد السوفياتي السابق، مع اختلافين اثنين: الاختلاف الأول، هو أن الدولة في إيران ليست مكونا واحدا موحدا، بل تضم عدة فئات تتشكل منها النخبة الجديدة الحاكمة.

والاختلاف الثاني، هو أن جماعات «المصالح» الخاصة، مثل المؤسسات الدينية (البونياد)، تمارس سلطة كبرى على سياسات الدولة والسياسات الاقتصادية. ودأبهم العمل والضغط بفعالية في أوساط الحكومة للتأثير على النهج الاقتصادي وتسييره باتجاه خدمة مصالحها. في ضوء ما تقدم، فإن العقوبات الاقتصادية تفاقم، في الواقع، حالة متجذرة من التأزم الاقتصادي المفضي إلى الانهيار.

إن صراع النفوذ سيستمر بين المرشد الأعلى وأي رئيس مقبل للجمهورية في إيران، غير أن الاقتصاد الإيراني في واقع الحال مريض في حالة الخطر. وكلما تناقص الدخل من النفط، ستصبح أبعاد الأزمة وتداعياتها أكثر وضوحا.

* أستاذ وباحث اقتصادي إيراني في معهد بورغونيا للاقتصاد في فرنسا