هل أنت مع الإصلاح المتدرج.. أم تعتبرينه ذريعة لحرمان المرأة من حقوقها؟

لا- الحقوق لا يجوز تعطيلها لا بمنع ولا بتأخير عن أصحابها.. مهما كانت الذرائع

TT

لإيماني بأن الحقوق لا يُستفتى عليها، فنظرتي إلى نظام التدرج أنه نظام تأخير متَعمد يتحايل على الحقوق بغية تعطيلها، كحال الاستفتاءات المتكررة على حقوق المرأة، وكأن هذه المرأة كائن هبط من كوكب آخر وليست مخلوقا إنسانيا كالرجل.

الحقوق لا يجوز تعطيلها لا بمنع ولا تأخير عن أصحابها مهما تذرع به المتذرعون من حجج، بل إنه وبسبب تأخير الحقوق الطبيعية للمرأة نحتاج إلى قفزات على مستوى إنساني راقٍ لتعويض المرأة ما فاتها من أصل حقوقها وفروعها.. وما يجري من تعطيل أو تأجيل بحجة التدرج إن هو إلا محاولة مستميتة من قِبل مُتمصلحي التعطيل ليدوم الحال على ما هو مسكوت عنه أو محجوب من حقوق على مر الزمان.. والحقيقة: نزاول ضربا مقيتا من الكفر الأخلاقي بمنع الحقوق.

وتحضرني هنا مقولة عظيمة لعالم الاجتماع والتاريخ الدكتور علي الوردي رحمه الله: «إننا اعتدنا أن نتصور الزمان منفصلا عن المكان، ولكن الزمان امتداد في الفضاء، فالزمن لا يسير، إنما هو واقف في مكانه ونحن الذين نسير في الواقع، حيث ننتقل من نقطة إلى أخرى على امتداد خط الزمان المديد.. إن راكب القطار السريع يتصور حين ينظر من النافذة أن ما حوله يتحرك وهو واقف، على هذا المنوال يتصور الإنسان الزمان متحركا بينما هو في الحقيقة ساكن، فالمستقبل لا يأتي إلينا إنما نحن نذهب إليه، فهو موجود (هناك) في نقطة من نقاط الزمان».

هذا الفهم العميق لحركة الزمان، المستقبل منه بالذات، يدلنا على عقوبة ونتائج التأخير، بحيث يسجل الآخرون نقاطا تقدمية على خط الزمان، بينما نحن نقف على نقطة منه لا نبرحها. إذن نحن بحاجة إلى قفزات سريعة وجريئة لنسجل نقاطا متقدمة نعوض بها ما فاتنا، لا أن نقف على نقطة منه نتشدق فيها بتراث ماضٍ غابر من الزمان.

أما عن الجاهزية، فما الجاهزية المقصودة أكثر من توافر امرأة لاقت حظا ونصيبا من العلم والمعرفة والدربة والخبرة، وتنتظر ترجمة قدراتها ومهاراتها في جميع المناصب كالرجل تماما؟ هل بعد هذا جاهزية؟! الجاهزية ليست مصطلحا هلاميا، بل هي إنسان وواقع يهب الكفاءة جل اهتمامه. والسؤال، إذن، هل ثمة نضج معين ينبغي أن تبلغه المرأة حتى تصبح أهلا لحقوقها؟

ولأن الأمر دائما مرتبط بالحرية، فالعقل هو أول ما يجب تحريره من مقولات الانتقاص للمرأة، التي تناصب الكرامة الإنسانية العداء تجاه مواقفها المأزومة باعتبارها جنسا لا يقبل المساواة بالرجل في الحقوق القانونية والكفاءة والمناصب. وهذه ثقافة ترسخ للرجم بالغيب؛ فتتوقع فشل المرأة دونما امتحان، وهي نتيجة حتمية لإسقاط قيمة الحقوق بعنصرية وتعصب ذكوري..

يقول الفيلسوف الشهير إيمانويل كانط: «لا يمكن للمرء أن ينضج للحرية إذا هو لم يوضع من قبل في حالة حرية». ولأن الحقوق تعول على الحرية، يمكنني القول: لا يمكن للإنسان أن ينضج لتقدير الحقوق ما لم نضعه من قبل في حالة حقوق. فحقوق المرأة التي صودرت منذ غابر الزمان هي التي فرعت الحقوق على أساس الجندر، والوعي لا يزال مأزوما بهذا التقسيم اللاإنساني الذي يتكالب عليه مغيبو الأنسنة في كل مكان وزمان. هذا التقسيم الجندري الأبوي السلطوي هو ما جعل حقوق المرأة دائما إن لم يطلها التغييب فستؤول للتأجيل، وكأنهم يستشيرون بصمة الذكورة في عقولهم ويهادنونها قبل السماح للمرأة بحق من الحقوق، وهو شأن المؤدلجين بثقافة التراث الغابر اللاإنساني الذي ينطلق في تعامله مع المرأة من غريزته لا من إنسانيته.

والحق؛ ليس أكثر من مَفسدة لحكم «ما» مثل مواطنة منقوصة، المواطنة التي لا تحمل القدر نفسه من الاستعداد الطبيعي للهوية والمسؤولية الوطنية.

وحده تغيير وعينا بالإنسان كفيل بفتح الطريق أمام التصحيح الحقوقي، والتصحيح كما أنه لا يتقبل التجزئة فهو لا يحتمل التأخير.. أنسِن الحقوق، هيِّئ الأرضية وقدم صياغة الكفاءة القانونية على أساس ينهض بالمقدرات والحظوظ الإدراكية للقدرات والمواهب، ثم ضع الشخص المناسب في المكان المناسب، عندها فقط تُنال الحقوق بلا عراقيل ولا مصادمات.

هناك هوة حقوقية سحيقة طال ملء عقول أهلها بانتقاص عقل المرأة وتهميش دورها، ومورس بأثرها الكثير من العنف والقهر ضد المرأة، لذلك أنا أميل لتقديم الحقوق على المناصب، فما إن تتأنسن الحقوق، حتى تهرول المناصب لمستحقيها رجلا وامرأة، ومع أني مؤيدة وبقوة دخول المرأة في مجلس الشورى، لكني لا أميل إلى التأييد المعتمد على الجندر لأتوقع نجاحا يعتمد على الجنس، فالنائب عن الشعب متى كان حقوقيا صادقا يدافع عن الفئات المهمشة فهو جدير بتولي المسؤولية المجتمعية كنائب برلماني.

المرأة حققت أعلى الدرجات العلمية، واكتسبت خبرات إدارية من خلال ممارستها للعمل في قطاعات كثيرة، ولا يزال الأمل بتحقيق خطوات أكثر لملاءمة حقوقية أعلى إنسانية، فالمناصب المهمة ما زالت محصورة في الرجال، وما دام منع الحقوق ساريا، فبالطبع سيليه مصادرة المناصب.

وبأنسنة العلاقات تتكافأ الحقوق، عندها فقط ستكون الحقوق القانونية والمدنية هي السائدة، ولكن علينا مصارحة أنفسنا كمجتمع أولا، وكنساء بالذات، أن الحقوق تسبق المناصب، فما لم يُرَد اعتباري كإنسانة كاملة الأهلية، لا كناقصتها أو معدومتها، فلن تنفع المناصب، والدليل أن المرأة وصلت لمنصب مديرة جامعة ووكيلة وزارة ونائبة وزير وعضو شورى ولا يزال انتقاصها وتشييؤها يمارس على مستوى التربية والتعليم وفي الإجراءات الحكومية، ويكفي كمثال فقط لا كحصر الرسائل النصية (SMS) التي تصل للزوج أو الولي لتخبره بأن امرأته غادرت البلاد أو قدمت، كتفعيل تقني يخدم النظرة القاصرة لتشييء المرأة... وما لم تتغير الإجراءات الحكومية والثقافة المكونة لهذا الوعي المأزوم في علاقته بالمرأة، فلن نستفيد من مناصب مفصولة عن نيل الحقوق وأنسنة العلاقات ومساواة التكافؤ.

قناعاتي تفضي إلى ضرورة إحداث وعي إنساني شامل يزيل معوقات النظرة الانتقاصية للمرأة في مناحي الحياة، بعدها تكون المناصب جاهزة بدهيا وبسلاسة.

*كاتبة وباحثة سعودية