هل تسعى تركيا حقا إلى لعب دور نافذ في الشرق الأوسط اليوم؟

نعم- ... لكن مكانتها تراجعت نسبياً بسبب سياستها السورية

TT

لماذا يتوجب على شخص مهمته تحسين علاقات بريطانيا بالإعلام العربي، والترويج لمواقفها من قضايا المنطقة، السفر إلى تركيا والحرص على مقابلة صحافي تركي؟

طرحت هذا السؤال قبل ثلاث سنوات خلال لقاء جمعني بدبلوماسي بريطاني قصد تركيا بهدف الاجتماع بأحد صحافييها، ولقد أعجبت كثيرا بجوابه، إذ قال: «الجميع في الشرق الأوسط، بما في ذلك رجال الأعمال والساسة وأهل الإعلام وحتى الإنسان العادي يثني على تركيا وعلى صعودها. ولذا قصدت أن أرى بأم العين هذه البلاد التي تدهش كل أبناء المنطقة، وفهم كيف نجحت في تحسين صورتها خلال الفترة القصيرة من الوقت».

هذا واقع كل أبناء الشرق الأوسط يلحظونه راهنا. فالمسلسلات التلفزيونية التركية تبث عبر عدد من المحطات التلفزيونية في جميع دول المنطقة، وأعداد السياح العرب الذين يزورون تركيا في تزايد مطرد، والصلات بين المثقفين ورجال العمال ومنظمات المجتمع المدني العربية والتركية تتزايد وتعزز، ورئيس الجمهورية عبد الله غُل ورئيس الحكومة رجب طيب أردوغان، وكذلك وزير الخارجية أحمد داود أوغلو لقوا ترحيبا حارا في كل مكان زاروه من المغرب غربا حتى إيران شرقا، ورأى المواطنون هناك في تركيا مثالا يقتدى به، أو على الأقل، مصدرا يستوحى منه.

وتأكد تزايد الاهتمام بتركيا، في أوساط النخب الحاكمة والمواطنين العاديين على السواء في الدول المعنية، وتزكّيه أكثر فأكثر استطلاعات الرأي المسحية على الصعيدين المحلي والدولي. ولقد دعم «الربيع العربي»، الذي غيّر بصورة دراماتيكية الصور النمطية ونموذج العلاقات في المنطقة هذا الرأي الإيجابي حيال تركيا. وكثرة من القادة الذين ظهروا على المسرح خلال عملية التغيير أعلنوا أنهم اقتدوا بالتجربة التركية، وكان هناك عدد من الأحزاب السياسية التي اقتبست لنفسها اسم حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا أو أسماء مشابهة له. كذلك وقفت أنقرة مع الشعب في كل من تونس ومصر وليبيا، وكانت السياسة مجزية. وأسهمت تركيا أيضا في معالجة الأزمات السياسية والإنسانية في المنطقة.

غير أن الشقّ السوري من «الربيع العربي» لم يؤد فقط إلى تدمير علاقاتنا مع سوريا، بل شوّه صورة تركيا في الشرق الأوسط. إذ كشف أحدث استطلاع رأي عام سنوي في سلسلة استطلاعات «المؤسسة التركية للاقتصادي والبحث الاجتماعي» (تيسيف) حول نظرة مواطني الشرق الأوسط إلى تركيا، أن الانطباع الإيجابي عن تركيا آخذ في التراجع لأول مرة. وفق الاستطلاع الذي أجري في 16 دولة شرق أوسطية خلال أغسطس (آب) 2012 تراجعت نسبة المستفتين الراضين عن تركيا إلى 69% مقابل 78% عام 2011. وباستثناء الارتفاع بنسبة 1% في دول منطقة الخليج تراجع مستوى الرضا عن تركيا في جميع الدول الأخرى. ففي مصر تراجع الرضا من 86% إلى 84%، وفي لبنان من 78% إلى 63%، وفي فلسطين من 89% إلى 77%، وفي سوريا من 44% إلى 28%، وفي إيران من 71% إلى 59%، وفي العراق من 74% إلى 55%، وفي تونس من 91% إلى 80%.

باستثناء سوريا والعراق، فإن غالبية مواطني الدول الأخرى يعتبرون تركيا دولة صديقة. أيضا رأى المستفتون أن تركيا أسهمت إيجابيا في مسار التغيير، وهذه نقطة إيجابية. ولكن في المقابل رأى 52% فحسب أن سياسة تركيا إزاء سوريا صحيحة، مقابل 36% اعتبروها خاطئة. وتراجعت نسبة الذين يؤمنون بأن نفوذ تركيا الإقليمي يتصاعد من 70% إلى 61%، في حين تراجعت نسبة الذين يرون تركيا نموذجا للشرق الأوسط من 61% إلى 53%.

في الواقع المحافظة على القمة أصعب من بلوغها. والوضع الراهن في الشرق الأوسط يوحي بأن تركيا في مرحلة حرجة بما يتعلق بقدرتها على الاحتفاظ بالنظرة الإيجابية إليها. وبالتالي، فإن تحسن النظرة إلى تركيا في المنطقة له تأثير على مختلف الأصعدة، بما فيها الازدهار الاقتصادي، نتيجة تنامي أعداد السياح العرب المتوافدين عليها، وفي المقابل، فإن الانطباع السيئ لن يؤذي فقط حكومة حزب الحرية والعدالة بل سيؤذي مجموع سكان تركيا.

لقد ساعد «الربيع العربي» على منح تركيا فرصة تعزيز موقعها عبر إمكانيات «القوة الطريّة» مثل النجاح الاقتصادي، والمسلسلات التلفزيونية، والسياحة، وتجربة الدمقرطة، والقدرة على الجمع بين العصرنة والقيم الإسلامية، وتسريع التكامل مع العالم، والسياسة الخارجية النشطة والمستقلة، والقدرة للتحاور مع كل الأطراف، إلخ. ولكن «الربيع العربي» والأزمة السورية فرضا على تركيا أن تكون طرفا منحازا، وتفعيل «قوتها الصلبة» التي كان دون المستوى المطلوب للعبها دورا إقليميا بقواها الذاتية منفردة.

وفي الاتجاه نفسه، عندما ظهرت المواجهات القاسية وأخذت منحى طائفيا اتضح أكثر مدى ضعف تركيا في الحرب الإعلامية. وهكذا، بينما حظي تقدم تركيا ونجاح مسلسلاتها التلفزيونية باهتمام الناس، انكشفت الثغرة الكبيرة المتمثلة في قلة عدد الدبلوماسيين الذين يجيدون العربية، وفي ضعف البث الإعلامي باللغة العربية.

ورغم شعبية القادة الأتراك في المنطقة فإنهم عجزوا عن إقناع الرئيس بشار الأسد بالتنحي سلميا أو عبر اللجوء إلى القوة في أعقاب عدد من التهديدات والوعود باستخدام القوة. وهنا يمكن القول: إن الأزمتين الليبية والسورية كشفتا حدود إمكانيات السياسة الخارجية التركية ودورها القيادي الإقليمي، إذ كان على أنقرة التعاون مع حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو الولايات المتحدة، أو طلب مساعدتهما على النقيض من النبرة القوية لخطاب القادة الأتراك.

نعم، لدى تركيا الأهلية للعب دور على مستوى المنطقة بفضل قوتها الاقتصادية، وتجربتها الديمقراطية، وعمقها التاريخي، وموقعها الجيو/سياسي، وثرائها الثقافي. ولكن من الضروري أن تعترف بسلبيات سياستها السورية، وارتباكها عند استخدام «القوة الصلبة» و«القوة الطرية»، ونوعية اتصالاتها مع العالم العربي، وأخذ التدابير المناسبة مع مقاربة أكثر تواضعا.

* إعلامي تركي، كاتب عمود في صحيفتي «زمان» و«تودايز زمان»، ومدير عام وكالة شيهان للأنباء