.. وهل سيتمكّن الاعتدال الشيعي من الوقوف في وجه الراديكاليين؟

لا- .. ليس قبل تبديد مشاعر الإحباط السياسية والطائفية ومعالجة الأخطاء

TT

عندما انتصرت الثورة الإيرانية عام 1979، وتمت الإطاحة بنظام الشاه، وتبدّلت جوانب مهمة من سياسات إيران المعلنة آنذاك والموالية للغرب والمتعاطفة مع إسرائيل، تعاملت شعوب المنطقة الخليجية وبقية النخب العربية مع هذه الثورة باعتبارها إحدى الثورات التحررية والتقدمية الكبرى في العالم الثالث.

وعلى الرغم من قوة التاريخ القومي التاريخية في الكويت، والمشاعر العروبية الطاغية، والحساسية المعروفة إزاء «التوسع الإيراني»، كانت الحركة القومية فيها من أبرز المتعاطفين مع هذه الثورة لما حملت من وعود وآمال، وسط ظروف «استسلام العالم العربي» لاتفاقيات السلام مع العدو الصهيوني، ووسط تهديدات الشاه.

ولا عجب على وجه الخصوص إن كانت شرائح واسعة من شيعة المنطقة الخليجية والعراق ولبنان، وبخاصة من النخب الدينية والسياسية بين أكثر المؤيدين للثورة الإيرانية، بعد أن أزالت هذه الثورة الكثير من العُقد النفسية والحواجز الفكرية والعوازل السياسية، وردت في بياناتها وقراراتها على الكثير من التهم والانتقادات بحق الشيعة، وأفسحت المجال أمامهم للالتحام بالهوية الوطنية من موقع قوة.

ولقد تماهى الكثير من قادة الشيعة ونخبهم وخريجيهم لأسباب مختلفة في هذه الثورة وأهدافها، متوهّمين في أغلب الأوقات أن التجربة الثورية في إيران تعبّر عن مصالح الشيعة في كل مكان وتلخص الخبرة التاريخية لمختلف أقلياتهم.. وفي كل مكان! وكان لهذا التصوّر المتسرّع الخاطئ ثمن باهظ في كل المناطق، ومنها الدول الخليجية والعراق ولبنان، وربما كل مكان. والأسوأ من هذا أنه لم يتابع أحد من هؤلاء مشكلات إيران الداخلية، ولا اكتراث بانحرافات الثورة، ولا حاسب قياداتها بعد ثلاثة عقود ونيف، من «إدارة» دولة بثراء إيران. وهكذا استفادت مختلف القيادات والحكومات الإيرانية من هذا التعاطف الشعبي الساذج، واستثمرته إلى أبعد الحدود، فبتنا إزاء موقف شديد الشبه بموقف الأحزاب الشيوعية من موسكو زمن «الحرب الباردة».

ولم يستهجن أحد من هؤلاء الذين أعماهم التعاطف والانقياد الطائفي، حتى بناء حزب شيعي مسلح داخل لبنان مثل حزب الله، دون أن تكون للدولة اللبنانية سلطان عليه. وها هو الحزب نفسه يتدخل مع إيران ضد إرادة الشعب السوري، ويلطّخ سلاحه بدماء آلاف الأبرياء.

الراديكالية الإيرانية تركت تأثيرا بالغ السلبية على شيعة بلدان الخليج العربية منذ تصاعد التوجّهات الشمولية والآيديولوجية في التجربة الإيرانية وقمع المعارضة والتعدّدية. وتراجعت مع الوقت، وبقوة، الجماعات الشيعية الناقدة لأخطاء إيران وسلبيات مواقفها، أو تلك التي استقلالها عن «ولاية الفقيه» وسياسات إيران. وفي الكويت لا يكاد المتابع يجد أثرا لأي موقف بارز في هذا المجال لـ«الجماعة الشيرازية»، مثلا، التي عُرفت باستقلالها ونقدها. غير أن الدراسات في هذا المجال قليلة وصعبة، والأقل منها تلك التي تقيس العلاقة بين تزايد الطموح الإقليمي الإيراني من جانب، وتزايد الراديكالية لدى الشيعة في دول مجلس التعاون الخليجي. وفي الكويت، مثلا، انقسام واضح اليوم بين أغلبية شيعية لا تزال تنظر إلى التجربة الإيرانية من خلال هالات التديّن والتشيّع، وأقلية بدأت تدرك حقائق الوضع هناك. ومن المؤسف في هذا المجال أن الجرائم الإرهابية التي ترتكب بحق الشيعة في العراق منذ 2003، وفتاوى التكفير والحرب الإعلامية ضد الشيعة، تخدم باستمرار مخاوف المتشدّدين الشيعة على حساب دعاة التقارب والتسامح واستقلال التجربة الخليجية.

لقد رافق تصاعد حركة الإصلاح البحرينية انطلاق الثورة السورية. وسرعان ما غدا التعاطف مع هذه أو تلك محور صراع مذهبي واضح على الرغم من الاختلاف الشديد موضوعيا بين ما يلاقيه الشعب السوري والشعب البحريني من معاملة في البلدين. بين ما قام به قادة النظام السوري ضد شعبهم وما ارتكب من مجازر ودمار، وبين إجراءات الحكومة البحرينية إزاء تحرّك الشيعة بالذات، حتى بعد أن أزّمتها جملة من المطالب الراديكالية التي شقّت قوى الإصلاح في البحرين، بتأثيرات إيرانية على الأرجح.

ولعل تصريحات السفير البحريني لدى السعودية الشيخ حمود بن عبد الله آل خليفة، في مطلع الشهر الحالي عبّرت بدقة عن بعض تناقضات السياسة الإيرانية، التي يتعامى عنها للأسف أنصار الثورة الإيرانية ومؤيدو «ولاية الفقيه». ولقد جاء في التصريح المنشور في إحدى الصحف العربية يوم 1-6-2013:

«إن النظام الإيراني يقع في تناقض شديد، فهو من جهة يدافع عن حليفه النظام الأسدي وما يمارسه ضد الشعب السوري من ظلم وتعسّف وطائفية، فيما يدّعي من جهة ثانية أنه يريد حماية حقوق الإنسان حرّياته في البحرين، فارضا وصايته على طائفة من الشعب البحريني، كما يعطي لنفسه حق المشاركة في قتل أبناء الشعب السوري مع النظام الأسدي، فيما يزعم أن مجرد وجود قوات من (درع الجزيرة) التابعة لمجلس التعاون الخليجي في البحرين هو احتلال أجنبي».

لقد استقطبت الثورة الإيرانية في منطقها، كما ذكرنا، تعاطف الكثيرين، ولكن هذا التعاطف سرعان ما تبخر مع مرور الوقت. وكان السبب المهم في هذا التراجع الطائفي المذهبي الضيّق للثورة، وإن لم يكن السبب الوحيد. إذ كان يمكن للعالم الإسلامي أن يغض النظر عنه لو اعتدلت السياسات الإيرانية الخارجية والدولية، أو نجحت سياساتها الاقتصادية والتنموية في تقديم نموذج إيراني أو «شيعي» ينافس «النموذج التركي»، مثلا، وعلى الرغم من أن إيران بثروتها النفطية ومكانتها الخليجية وغير ذلك، تتمتع بأفضليات يحسدها عليها الأتراك.

لا يعكس التشدد الإيراني طبيعة الشعب الإيراني أو مصالحه، ولا يمكن اعتباره حلا حتميا لأزمة النظام إن كانت إيران حقا بصدد حل مشكلاتها واسترداد مكانتها.

وواضح أن السياسات الإيرانية الحالية تهدد مصالح الشعب الإيراني ومصالح الشيعة في دول مجلس التعاون والعالم العربي. كما أنها تضعف قدرة إيران السياسية والعسكرية والاقتصادية بتزايد عزلتها، وبخاصة إن كانت راغبة بصدق في «التصدّي لإسرائيل» أو «منازلة الشيطان الأعظم». وكم من مرة سألت مؤيدي السياسات الإيرانية من شيعة وسنّة، ماذا ستفعلون لو أقدمت إيران على تغيير هذه السياسات فجأة في عملية تحوّل سياسي أو صراع انتخابي أو أزمة طاحنة؟ لماذا تتعاطفون بشكل أعمى مع شعارات وسياسات لا تنتمي إلى القرن الحادي والعشرين؟ ولماذا تغمضون عيونكم عن الواقع الإيراني في عصر السماوات المفتوحة والإعلام الحر والإنترنت والسفر السهل إلى سائر مدن إيران وغيرها؟

والآن، ما الذي يمكننا عمله لدعم تيار الاعتدال في صفوف الشيعة، واحتواء هذه الراديكالية الجوفاء التي لا تحمل لنا، شيعة وسنة،.. سوى الشر؟

لا يمكن، بالطبع، عمل الكثير خليجيا وعربيا، فالمشكلة في الواقع ليست محصورة بمجال واحد.

ثمة في البداية مشاعر إحباط سياسية وطائفية وأخطاء متراكمة وواجبات أهملت من عدة أطراف. وهناك اليوم مشاعر صراع وكراهية واستقطابات طائفية متوترة تعكسها أدوات الإعلام والإنترنت التي يتطاير منها الشر والشرر.

ثمة الكثير مما يمكن عمله من خلال الجهد التعليمي والجامعي والإعلامي والديني وغير ذلك. ولكن ما هو ملح في هذه المرحلة، بعد أن وقعت الكارثة الطائفية في العراق وسوريا والبحرين، أن نركّز جهدنا المتواضع في مجال «فك الاشتباك» بين الفريقين وعدم تقديم أي خدمات إعلامية تزيد التوتّر. على صعيد آخر، فتحت انتصارات «الربيع العربي» المجال لصعود التيارات الإسلامية وأحزاب الإسلام السياسي، وبعضها إما غير معادٍ أو صديق لإيران وأفكارها وحتى أساليبها في إدارة النظام الديني.

فما الذي يمكن عمله، مثلا، إن نشأ تعاون بين إيران و«إخوان» مصر وليبيا وتونس وغيرها؟

* كاتب وباحث كويتي