هل تعبر الجوائز الثقافية دائما عن معايير مهنية.. تشجيعية أو تقديرية؟

نعم- .. مع أن «الشيك» حفيد «الصرة»... والجائزة سليلة الجائزة

TT

فلنبدأ من البداية.. الجائزة بنت الجائزة - بنتها الطبيعية والمؤسساتية، وإذا كانت الجائزة الأولى هي نوبل والبوكر والطيب صالح والبابطين والعويس والشارقة والقاهرة، وسوى ذلك كثير من أعلام الأدب والمال والأعمال والرئاسة، ومن أسماء العواصم والحواضر، فالجائزة الثانية، هي، على ذمة ما تحفل به كتب التراث ذلك المقدار من الدراهم أو من الذهب أو من الفضة أو ذلك العدد من العبيد أو الإماء أو الخيول المطهمة الذي كان حين يأخذ الطرب بخليفة عباسي يأمر به لشاعر مدحه أو لراوية أحسن منادمته.

بكلام آخر، الشيك وشهادة التقدير تمتد بهما يد إلى يد وسط احتفال يسمى عرسا ثقافيا تستدعى لتلطيف أجوائه فرقة موسيقية راقية، ولا يكتمل إلا بأن يوثق ماجرياته إعلاميون مبرزون.

أقول «الشيك» و«شهادة التقدير» هما، شئنا أم أبينا، أحفاد «الصرة»، أو ما نتخيله صرة.. ولا ضير في ذلك، ولا من يضيرون.. ولا من يُضارون.

بالطبع، ليس الخليفة العباسي ولا صدام حسين النموذجين الوحيدين للراعي المحسن الذواقة، أو الزاعم امتلاك ذائقة أدبية. وليست الجائزة، بالمعنى الأول، سليلة الجائزة، بالمعنى الثاني، تبعا لخط وراثة مستقيم، ولنسب عمودي لا انقطاعات فيه ولا التواءات. بل يمكن القول إن هذه الانقطاعات والالتواءات هي المحطات المتعاقبة في «حداثة» الجائزة، وفي تحولها من مجرد عطية فردية يأمر بها صاحب سلطان على البلاد والعباد إلى مؤسسة ذات قوانين مقننة وقواعد مقعدة.

وإذا كان تحديث الجائزة، أو قل «الجائزة المواطنية»، في بلاد منشئها، أي في الغرب، قد رافق في تلك البلاد إياها تحديث السياسة، أي خروجها من ذمة الواحد وحاشيته إلى ذمة الجماعة، وانتظام هذا التوسع وفق أشكال مؤسساتية عمادها المشاركة في القرار، أو أقله حق الرقابة العلنية عليه، فإن الجائزة في بلادنا، شأنها شأن الكثير من وجوه التحديث السياسي، دخلت إلى حياتنا العامة، والثقافة بعض هذا العموم، من باب «الانقلاب».. وفي أحسن الأحوال من باب «الترجمة الفورية». وهنا.. أعني من باب الفرمان السلطاني، الذي يزين لنفسه ولجمهوره المفترض، سواء كان وراءه جهة رسمية أو جهة خاصة، أنه من الممكن، مثلا، تأسيس جائزة أدبية بين ليلة وضحاها، أو من باب بناء القدرات المؤسساتية الذي يتوهم ويوهم جمهوره المفترض، أن إنشاء الآلية يعود، شيئا فشيئا، على سلوكيات جديدة، وهو ما أسميه الترجمة الفورية أو «الفرانشايزينغ» (على غرار ما حاولته بعض دولنا، مثلا، من تعريب مؤسسة «الأمبودسمان»، أو المحامي عن حقوق الناس حيال تعسف الإدارة، أي، بعربية أخرى.. «ديوان المظالم»!).

بيت القصيد من كل ما تقدم أن الجائزة في عالمنا العربي، بصرف النظر عما تكافئه هذه الجائزة أو تلك من عمل أدبي أو من أثر معماري أو من فتح علمي، وبصرف النظر عن كونها مبادرة عامة أو خاصة، فردية أو ذات طابع مؤسساتي، عالقة في عنق الزجاجة نفسه الذي تعلق فيه وتتزاحم كل محاولات تحديث حياتنا العامة. ومن هنا، لربما ما يشوب الكثير منها من طابع سُخري سواء في طبيعة بعض المؤسسات المانحة، أو الهيئات المحكمة، أو شروط الترشح أو أسماء الفائزين والفائزات أو حتى مراسم التكليل بالغار والتشييع إلى العلى..

هل مقول ذلك أن الجائزة على نحو ما دخلت إلى حياتنا العامة، ومنها حياتنا الثقافية، مؤسسة.. على غرار سواها من المؤسسات، لا يُرجى منها سوى أن تضيف، في الأغلب، صفحات إلى سجلات فسادنا المادي والثقافي، وأن تفتح علينا أبواب ثرثرات ونمائم وثارات أدبية معتقة؟

على الرغم من كل ما تقدم، ومن كثير يمكن إضافته: كلا! وليس في هذه الـ«كلا» جلد للنفس أو استدراج لشماتة: الجائزة بعض مما تُتأتئه حياتنا الثقافية العامة، والتأتأة خير من العي وخير من الخرس. فهيا إلى مزيد من الغار والذهب لنضيء مشهدنا القاتم..

* روائية لبنانية وناشرة «دار الجديد» في بيروت