هل تراجع اهتمام الدول الخليجية بالثقافة؟

لا- .. بالنظر إلى دول الخليج يمكن متابعة الدور الحكومي في المنشآت الثقافية

TT

الثقافة صنيع الشعوب ونتيجة حتمية لممارساتها الحياتية وثقافتها ومعيشتها، لكنها بمرور الوقت قد تفقد خصائصها وصفاتها تباعا بسبب الانفتاح على الآخر والتغيرات الطبيعية والحياتية في سياق يومياتها، وبمتابعة المسار الإنساني والتاريخي نجد أنه إلى جانب الجهود الفردية والسلوكيات الجماعية التي كانت تتمسك ببعض العادات والتقاليد، فإن الحكومات الخليجية اشتغلت بدورها على تشكيل هويتها الثقافية وخارطتها الفكرية في اتصال بشعوبها وحضاراتها. ففيما التغير الزمني يطرأ على الممارسات واليوميات البشرية وتبدو هذه المجاميع قياسا للمحيط والبيئة المستجدة أو التطور الطبيعي والمتوقع، فإن الخصوصية الثقافية للمجتمع أيضا تبدأ في الذوبان والنسيان ما لم يكن هنالك من يهتم بمتابعتها وقراءتها وتفعيلها كهوية للبيئة المنتجة، وهذا ما يمكن ملاحظته في الحكومات الخليجية التي عملت طوال سنوات على تشكيل ثقافة تراكمية يمكن من خلالها الاستدلال على التطور الطبيعي لشعوبها والعادات والتقاليد والحضارات. مثل هذه العمليّة تتسم بكونها معقدة وطويلة ولا تأتي بنتيجة لحظية، لكنها تبدو واضحة تماما عبر المنجز الذي يعمق الملامح الفكرية والثقافية كهوية.

بالنظر إلى الحركة الثقافية على مدى الخليج العربي، يمكن متابعة الدور الحكومي في المنشآت التي تهيئ البيئة المثلى لتطوير تلك الثقافات، مثل معاهد الفنون، والموسيقى، والعلوم الإنسانية في الجامعات والكليات التي تمنح الفرصة للشعوب للاندماج في العمل الثقافي بعد استيعاب المعطيات والسعي إلى خلق تجانس ما بين الهوية المكانية الخاصة والتطور الثقافي العالمي، إلى جانب تعميم الثقافات وخلق متقابلات إنسانية جماعية وعامة، مفتوحة في نطاقها للعديد من الفئات والجماعات مثل المهرجانات والاحتفالات التي تخلق من البيئة ذاتها ومن طبيعتها مادة فرح وذاكرة مستمرة. إلى جانب المعارض الفنية والمبتكرة، الثقافية، والتعليمية، والعقارية، والتجارية، وتلك المفتوحة على الدوام للأوطان والبلدان الأخرى لترويج صناعاتها وثقافاتها وأفكارها، بالإضافة إلى عرض فلكلورها وتاريخها وحضاراتها. هذا التواصل المصنوع من شأنه أن يعزز الذات وأن يستوعب الآخر في مثل هذه المتقابلات من جهة أخرى.

وقد اتجهت البلدان الخليجية لاستيعاب مهارات ومواهب مواطنيها، وذلك في حرص على تشكيل بيئة تتداخل فيها الخبرات والتطلعات، حيث شجعت الحكومات على إقامة العديد من الأندية والمراكز الثقافية والجهات الأهلية والمؤسساتية التي تدعم الثقافة وتستقطب الخبراء والباحثين والمثقفين للاندماج في المجتمعات المدنيّة الصغيرة، ويمكن أن نجد هذا التطور المدني شكل حضاري لتلك الأمكنة وتشكيل بيئتها المتكاملة، خصوصا أمام النمو العمراني الذي لم يغفل أن يحدد للثقافة والفكر والممارسات الفنيّة مكانا في هذا الزحام، إذ نجد وسط كل هذا بعض المعاهد أو المراكز أو المكتبات العامة التي تهتم بالطفولة على اعتبارها فترة التأسيس والمنشأ، وتعزز في مختلف الفئات حسا أو ذائقة ما أو شغفا اتجاه نمط ثقافي أو أكثر.

وعلى الرغم من أن التعامل مع الثقافة بشكل منفصل واختصاصي أمر مستجد وحداثي، فإن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال أن الحكومات لم تكن ملتفتة للأهمية الثقافية، بل على العكس تماما، فقد سبق العمل المؤسساتي والوزاري اشتغال حقيقي على الواقع، وقد كان ذلك تحديا لكل الجهات في ما يتعلق بالحفاظ على التراث، والهوية المكانية، والهوية الحضارية، والإرث المادي وغير المادي، ويمكننا أن نعود لنموذج مملكة البحرين حينما كانت تنطلق البعثات التنقيبية والأبحاث الأثرية من وحدة خاصة بوزارة التربية والتعليم، قبل أن تندمج في الإعلام حينما كانت وزارة الثقافة والإعلام، وأخيرا تحولت إلى وزارة الثقافة بقطاعيها الثقافي والسياحي. مثل هذا المسار التاريخي يؤكد لنا أن الثقافة كانت أرق الحكومات واشتغالها خصوصا أمام حضارات غنية وتاريخية عميقة، وأن هذا الاشتغال التخصصي والتوجه إلى تجسيد العمل في نظام مؤسساتي ووزاري يؤكد لنا أن ثمة نضجا في التعامل مع المسائل الثقافية والتراثية والحضارية والفكرية. كما أن مسرح البحرين الوطني الذي افتتح في نوفمبر (تشرين الثاني) 2012 في سياق «المنامة عاصمة الثقافة العربية» كان بدعم من الملك حمد بن عيسى آل خليفة، عاهل البلاد، فيما استمر الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة، رئيس الوزراء في مملكة البحرين، في دعم ورعاية «معرض البحرين السنوي للفنون التشكيلية» حتى 39 سنة، وستحتفي المنامة معه أيضا العام المقبل بالمعرض في سنته الأربعين.

الأمر ذاته مع المدينة المعاصرة دبي التي تعتبر اليوم إحدى أهم المحطات السياحية على مستوى العالم، فقد صنعت من نفسها قوة ومحطة دولية لا يمكن انتقاصها، رغم أنها قبل عقود قليلة فقط كانت مغيبة عن خارطة العالم. ثقافة دبي اليوم هي ثقافة عمرانية وحضارية وفنية، استطاعت أن تكون نموذجا للعولمة وفي الوقت ذاته أن تؤسس لهويتها وأن تصنع وطنها، وهي اليوم تسافر بمعارضها وفنونها إلى مختلف الدول، كما يمكن للفنانين والمفكرين والمثقفين العالميين أن يوصلوا خطاباتهم جميعها إلى العالم العربي ومنطقة شرق آسيا وحتى الغرب من خلال مدينة دبي، ولم تكن لتصبح إمارة دبي بمثل هذا الثقل الثقافي والاجتماعي لولا جهود الحكومات ووعيها بأهمية تشكيل هوية ثقافية ومجتمعية مختلفة وبارزة.

إن منطقة الخليج العربي تعيش في هذه المرحلة عملية صناعة ثقافية يمكن ملاحظتها عبر ابتكار مواسم مستمرة للثقافة والفكر والاستضافات العالمية التي استعانت فيها بخبراء ومثقفين وفنانين من كل أنحاء العالم لتمرير مشاهداتهم وحضاراتهم. إن المهرجانات والمعارض والأمسيات والندوات والأمكنة العمرانية بأشكالها الجديدة أصبحت الآن ليست مجرد غاية ترف أو رفاهية، بل مجرد وسائط وأدوات لإنتاج ثقافة مستقبلية خاصة أو لتشجيع الشعوب على صياغة منجزاتهم الفريدة والتمسك في الوقت ذاته بالهوية والخصوصية الفكرية.

في الظروف الاستثنائية التي تمر بها أوطاننا، تبقى الثقافة وروافدها فعل مقاومة يزرع الأمل والفرح ويحافظ على الهوية ويؤكد على دور الشعوب والحكومات في رسم مستقبل أوطانها.

* وزيرة الثقافة بمملكة البحرين