هل تراجع اهتمام الدول الخليجية بالثقافة؟

نعم- .. ومرد ذلك إلى ما يمر به الوطن العربي من مخاضات تاريخية

TT

فإذا تمعنا في الإطار العام للمشهد نلحظ بالفعل تراجعا غير مسبوق لاهتمام حكوماتنا الخليجية بالشؤون الثقافية. ومرد ذلك بالتأكيد لما يمر به الوطن العربي من مخاضات تاريخية، عسيرة وبنيوية على أكثر من صعيد، وذلك في إطار ما اصطلح على تسميته بـ«الربيع العربي». وطبيعي إزاء ذلك أن يطغى الهاجسان الأمني والاقتصادي على ما عداهما من أولويات بالنسبة إلى حكومات دول مجلس التعاون وبخاصة في السنتين الفائتتين وامتدادا حتى اللحظة.

على أننا في المقابل، وعلى الرغم من كل شيء نلحظ أيضا جهودا رسمية دؤوبة ومساعي حثيثة – وإن كانت خجولة – من شأنها تعزيز الثقافة العربية وتوكيد مسارها الحضاري والتنموي العام والذي يصب جميعه في خدمة الهوية العربية الثابتة في تجددها لدولنا الخليجية. فالمهرجانات الثقافية، والمؤتمرات والقمم والمبادرات الثقافية المتنوعة ومنها مبادرات تعزيز مكانة اللغة العربية، والترجمة إليها التي تقوم بها العديد من المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، واحتفاليات عواصم الثقافة العربية، ما هي إلا دليل على وعي الحكومات والمؤسسات الأهلية لضرورة إيلاء الثقافة اهتماما كبيرا.

نعم! إننا نلحظ ضياعا وتقصيرا في تحديد الأولويات؛ نلمس غيابا في التنسيق بين الحكومات الخليجية، وتراجعا في المقدرة الفعالة على مواجهة هذي المتغيرات التي تطغى يوما بعد يوم على مجتمعاتنا خصوصا جيل الشباب. ولعل هذا الاضطراب والإحباط هو نتيجة الضغوطات المتراكمة والفشل في التأثير والحفاظ على الهوية العربية، خصوصا في ظل تطور أنماط الحياة ووسائل التواصل والاتصالات والتنقل، وأثرها السريع في «تغير وتغيير» الثقافة، ومواجهة التحديات والحروب الموجهة مباشرة ضدها، على الرغم من أننا لا يمكن أن ننكر مدى إسهام ثورة الاتصالات، وانفجار آفاق المعارف، وتلاقح الثقافات وتفاعل الشعوب مع بعضها بعضا.

نعم، لقد تراجع اهتمام بعض الحكومات الخليجية بالثقافة، نتيجة الأزمة الاقتصادية التي مرت بها بعض دول الخليج العربي خاصة في عام 2008 إثر انهيار سوق المال العالمية. وأصبح الشغل الشاغل للحكومات معالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن الأزمة، وتم إهمال المشروعات الثقافية.

ولا يغربن عن البال هذا العداء المشهر من بعض التيارات الدينية المتشددة التي ترفض التأقلم مع الوقائع والمتغيرات المؤثرة في ثقافتنا، وترفض كل ما هو تنويري، وتنظر بعين الريبة لكل ما هو جديد. هذا الرفض وذلك الصراع أسهما أيضا في تشتت الثقافة والهوية العربية، سواء على المستوى الفردي أو الحكومي، فبات المواطن حائرا بين الرفض القطعي أو الانفتاح الكامل، وما بين الحفاظ على ثقافته وهويته في مواجهة تحديات المجتمع ومؤثرات العالم من حوله.

أما البعض الآخر من الحكومات الخليجية، التي تعذّر عليها مواكبة الركب الحضاري الطاغي الذي صاحب الثروات النفطية الهائلة، فقد وجهت اهتماماتها إلى قشور الثقافة، كبناء المتاحف الضخمة التي تحوي لوحات عالمية بأسعار خيالية، والترويج للحفلات الموسيقية الصاخبة واستقدام الفنانين العالميين، وكأنما الثقافة أصبحت محصورة في ما يباع ويشترى.

من المؤسف أن تنأى هذه الحكومات عن مسؤوليتها تجاه ثقافتها وتنشئة الأجيال عليها، وهي دول نفطية لا تنقصها الموارد المالية. إذ لا يكفي التغني بأمجاد الجزيرة العربية والرحالة والمؤرخين العرب القدامى، بل يجب استثمار الطاقات الشبابية الهائلة الأكثر عرضة للمؤثرات الخارجية، كطغيان اللغة الإنجليزية ووسائط الثقافة الغربية والمحطات الفضائية والأفلام والموسيقى الغربية. كما أن هناك أيضا العديد من المؤثرات الداخلية، المتمثلة في العمالة الأجنبية المنتشرة بأعداد هائلة، وهيمنة الشركات والمؤسسات والجامعات والمدارس الأجنبية التي تستقطب أبناءنا، خصوصا من الجيل الصاعد، وذلك على الرغم من أن مناهجها وبرامجها لا تتلاءم مع ثقافتنا وهويتنا العربية.

وهنا، فإن كان اللوم الأول يقع على عاتق أصحاب القرار والمسؤولين، فإننا جميعا - أفرادا وجماعات - نتحمل أيضا جزءا من مسؤولية الحفاظ على ثقافتنا، سواء في المنزل، حيث يطغى في دول الخليج استخدام المربيات الآسيويات، أو في المدرسة حيث يزداد استخدام اللغات الأجنبية على حساب لغتنا العربية، أو في الجامعات حيث يتعلم كثيرون من الخليجيين في الخارج، وأخيرا في بيئة العمل التجارية التي يندر استعمال اللغة العربية فيها.

في هذه المرحلة، ومهما يكن من أمر، فإننا نرى أن حكومات دول الخليج العربي مطالبة بالعمل الجماعي والتنسيق في ما بينها لمواجهة هذا التحدي، وإشراك القطاع الخاص والتعليمي في رسم استراتيجية موحدة لدعم الثقافة العربية.

الثقافة هي مجموع العقائد والقيم والقواعد التي تجمع أفراد المجتمع الواحد وتميزهم، وتعبر عن المكانة الحضارية والتراث الفكري للشعوب والبلدان.

الثقافة ليست هكذا مجرد مجموعة من الأفكار الآنية والعلوم والمعارف الجاهزة، إنما هي تراكم تجارب ومساع وجهود مستمرة عبر مراحل طويلة من الزمن بحيث تمسي سلطة معنوية وحضارية ترسم سلوكيات المجتمع، وتنتقل من جيل إلى جيل عبر التنشئة الاجتماعية، ومشاركة مختلف أفراد المجتمع وطبقاته. ولن يتحقق البتة تقدم الدول والمجتمعات إذا أُهملت الثقافة فيها، ولن تنهض أمة أغفلت هويتها واستنسخت ثقافات غيرها.

* الأمين العام المساعد لمؤسسة الفكر العربي.. المدير التنفيذي لمؤتمرات «فكر»