.. وهل من الضروري اعتماد الحركة الثقافية على دعم حكومي في دول غنية كدول الخليج فيها قطاع خاص كبير؟

لا- .. ليس بالضرورة أن تعتمد على الدعم الحكومي اعتمادا رئيسا

TT

السؤال عن حاجة الحركة الثقافية لدعم حكومي في دول غنية، كدول الخليج، يوجد فيها قطاع خاص كبير سؤال يطرح، من الباطن، ثلاثة تساؤلاتٍ جادة ومهمة:

أولها هو: هل كون الدولة، أي دولة، غنية، يجعلها في غنى عن دعم الحكومة للحراك الثقافي فيها؟

وثانيها هو: هل تُقدم الحكومات في دول الخليج العربية دعما للحراك الثقافي؟ وما مدى الرضا عن هذا الدعم المُقدم، إن كان موجودا؟

وثالثها، هو: هل تحتاج الثقافة، في دول الخليج العربية، إلى دعم حكومي؟

من وجهة نظري، الغنى ليس بالضرورة نظيرا ولا موازيا للتقدم والحضارة، ولذلك فكون الدولة غنية لا يعني استغناءها عن دور فاعل للحكومة في إطلاق الحراك الثقافي فيها، وترسيخ جذوره، خاصة عندما تكون الدولة نامية وناهضة، تتلمس طريقها بين الأمم المتحضرة، وتحتاج، حاجة ماسة، إلى عمود فقري ثقافي ترتكز عليه، في نهوضها وتنميتها.

هذا فضلا عن أن عناصر جوهرية من ثقافة أي أمة، مثل التراث التاريخي والمحفوظات وغيرها، هي ملك عام تتولى الحكومة، بطبيعة مسؤولياتها، مهمة الحفاظ عليه ونشره بين مواطنيها وغيرهم. كما أن الحكومة هي التي تُنسق، على أقل تقدير، إن لم نقل تنهض بعملية الترابط الثقافي بين الدول، وهذا عنصر مهم في الحراك الثقافي يجب أن تسهم الحكومة فيه، بل ربما احتاجت إلى النهوض به كليا في البداية.

أما الدعم الذي تقدمه حكومات دول الخليج العربية للحراك الثقافي فيها، فهو، بلا شك، موجود، لكنه متفاوت، من دولة إلى أخرى، في الحجم والجدوى والاستمرارية والنوعية. ولست هنا في وارد الحديث تفصيلا عن هذا الأمر، فإن مقارنة يسيرة بين أي مجموعة من دول الخليج العربية ستظهر طبيعة وحجم وتنوع الدعم المُقدم من الحكومات للحراك الثقافي فيها، إلا أنني أود أن أسجل هنا أنني، شخصيا، أرى أن الدعم الذي تقدمه الحكومات للنشاطات الثقافية في دول الخليج العربية، يقصُرُ دون المأمول إما ماديا، أو نوعيا، أو من الجانبين معا.

من هنا، أخلص إلى أنني أرى أن الحراك الثقافي في دول الخليج العربية أمر جوهري ومهم لتحديد وترسيخ هوية شعوب المنطقة وتعزيز أركان ثقافتها، وهذه بدورها أمور في غاية الأهمية إذا أريد لنهضة هذه الشعوب أن تكون أصيلةً وذات عمقٍ ومعنى. ولأن دول الخليج العربية، على الرغم من غناها واحتشادها بمظاهر التقدم الحضاري والتقني المُختلفة، هي، في واقع الحال، دولٌ نامية، فإنه يفترض أن يكون لحكوماتها دور ريادي وتأسيسي في كل مجالات الحياة، بما في ذلك المجالات التي يفترض، عند نضجها، أن تكون من مسؤوليات مؤسسات المجتمع المدني، وعلى رأس هذه المجالات المجال الثقافي، بمعناه الواسع والشامل. وعلى الرغم من أنني، كما أقررت آنفا، أرى أن الحكومات في دول الخليج تُقدم دعما للنشاط الثقافي، على ما في هذا الدعم من تفاوتٍ بين الدول، فإن هذا الدعم، كما ذكرت، لا يصل إلى مستوى الآمال المعقودة عليه، إن كما أو نوعا أو استمراريةً. كما أن هناك جانبين مهمين لم يوليا الاهتمام اللازم، حيث أرى أنه على الحكومات في دول الخليج العربية التعامل معهما في هذا المجال بأكبر قدر من الاهتمام والتركيز، وهما:

أولا: ضرورة بناء الحراك الثقافي في دول الخليج العربية، وإسهام الحكومات فيه ودعمها له، وكذلك إسهامات وأدوار مؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات القطاع الخاص والأفراد، في دراسة استراتيجية تحدد أطر الهوية الثقافية، وأبعادها ومكوناتها، وترسم الخطوط العريضة للنشاطات الثقافية، وللتواصل الثقافي داخل المجتمع، وبين المجتمع وأقرانه إقليميا وعالميا، بحيث تكون هذه الدراسة هي الهيكل الذي يحتوي الجهود الحكومية والمؤسسية المستقلة بل والفردية، ويُتيح للجميع فرصة الإسهام والتفاعل والتواصل بشكل متكامل ومتضافر. أي، باختصار، يجب على الحكومات أن تساعد كل الأطراف المعنية في المجتمع، وتقود جهودها لكي يعرف المجتمع هويته الثقافية بكل أبعادها، ويعرف مكانها بين الهويات الثقافية الأخرى، ويعرف الأساليب التي تتيح له ترسيخ هذه الهوية والتعريف بها.

هذه الدراسة الاستراتيجية، بهذه الأبعاد، ستكون القاعدة القوية الراسخة التي يمكن أن ينطلق منها بناء حراك ثقافي متنوع ومقنع وفاعل، يخدم المجتمع ويعزز ثقته بنفسه وبمكانته بين مجتمعات العالم، كما أن التزام هذه الدراسة والعمل على تحديثها باستمرار يضمن للحراك الثقافي الاستمرارية، وهي أمر جوهري جدا لفاعليته.

وثانيهما: بناء خطط الدعم الحكومي للحراك الثقافي على مبدأ الانتقال التدريجي للمسؤوليات، بحيث توضع خطط تنفيذية قريبة ومتوسطة وبعيدة المدى، تُعِد فيها الحكومة نفسها ومؤسسات المجتمع المدني والأفراد لنقل مسؤولية دعم وتفعيل الحراك الثقافي من الحكومة إلى هذه الجهات، تدريجيا، بحيث تؤول هذه المسؤولية الجسيمة إلى من يجب عليهم تحملها على المدى البعيد، عندما يكونون قد بلغوا من الإدراك والفعل والتفاعل المستوى الذي يسمح بنقل هذه المسؤوليات إليهم، وذلك في إطار الدراسة والخطة الاستراتيجية التي أشرت إليها آنفا، مع بقاء الحكومة مسؤولة عما يجب أن تبقى مسؤولة عنه مما ذكرت في بداية مقالي، واحتفاظها بدور المتابع الذي يدعم ويصوب ويوجه ويكمل جهود الآخرين.

أما مؤسسات القطاع الخاص، وما في حكمها، فالحديث في أمرها ذو شجون، وشرح دورها في الحراك الثقافي يطول، والواقع الذي أراه الآن هو أن أغلب مؤسسات القطاع الخاص، إلا من رحم الله، أساءت فهم المسؤولية الاجتماعية المؤسسية، وجعلت كل، أو جُل، جهودها في هذا الإطار مقصورة على الأعمال الخيرية من تبرعات وما شابهها، وأحسب أنه على الكثير منها أن يُعيد النظر، بشكل استراتيجي، في مستوى وطبيعة دعمها للحراك الثقافي، ذلك الدعم الذي إذا بلغ المستوى المأمول منه سيُغني عن الحاجة إلى أي دعم حكومي، ولكن حتى يحدث هذا لن يكون للحراك الثقافي بد من الاستناد إلى الدعم الحكومي، رغم ما عليه من ملاحظات وانتقادات!!

* مستشار سعودي في العلاقات العامة والإعلام