.. وهل من الضروري اعتماد الحركة الثقافية على دعم حكومي في دول غنية كدول الخليج فيها قطاع خاص كبير؟

نعم- .. مسؤولية تنميتها تقع إلى حد بعيد على عاتق الأجهزة الحكومية

TT

إن مسؤولية تنمية الحركة الثقافية في الوطن العربي تقع على عاتق الأجهزة الحكومية وعلى مكونات المجتمع المدني على السواء وبشكل متكامل. فأهمية الثقافة للمجتمع باعتبارها مشكّلة للوعي وحاضنة للانتماء للأمة ومحركة للإبداع، تجعل من وضعها في مقدمة الاهتمامات أمرا ضروريا، فالثقافة ليست أمرا إضافيا يمكن تأجيله أو الاستغناء عنه؛ بل هي من المكونات الأساسية لأي جماعة بشرية لأنها تنفي عن المجتمع الركود والعماء والتكرار، وتحيله إلى مجتمع حي متنام يتجاوز وضعه إلى الأحسن والأفضل باستمرار.

إن من مسؤولية أي حكومة باعتبارها هيئة مسؤولة عن إدارة دفة المجتمع وتوجيهها بالاتجاه الصحيح، ومن خلال امتلاكها لإمكانيات مادية ضخمة، أن تقوم بالمشاريع الثقافية التي يعجز الأفراد عن القيام بها. ذلك جزء من مسؤوليتها لا يمكن إغفاله، ولا يمكن لأي حكومة رشيدة أن تضعه في آخر اهتماماتها. ولكن من مسؤولية الأفراد أن يواكبوا الجهد الحكومي بجهد مماثل، فالثقافة أمر يخص كل أفراد المجتمع، فهي الغذاء الروحي الذي يساعد على اندماج الفرد في المجتمع، وتحمله مسؤولية إزاء محيطه، وتهيئه للقيام بدور فاعل في النهوض بالمجتمع وتحقيق آماله.

إن مؤسسات المجتمع المدني هي الأقدر على تحسس حاجات المجتمع الضرورية، والقيام بها بأقل التكاليف، والابتعاد عن الروتين والتعقيد الذي يفرغ بعض الإنجازات الحكومية من محتواها، ويقلل من فاعليتها وجدواها. وفي منطقة الخليج العربي يتوافر عدد كبير من رجال الأعمال الذين يمتلكون إمكانات مادية كبيرة، وإذا كان العمل في المجال الاقتصادي قد حقق لهم ثروات ضخمة فإن العمل التطوعي في المجال الثقافي وتخصيص جزء من ثرواتهم لإقامة مشاريع ثقافية تخدم البيئة وتسهم في تطويرها سيحقق لهم ثروة معنوية كبيرة، لعل من مفرداتها إحساسهم بالرضا كونهم جزءا عضويا من المجتمع، وكسبهم محبة أفراد المجتمع، وتوجيه المال وهو ناتج اجتماعي وجهته الصحيحة ليكون في خدمة المجتمع لا في خدمة الفرد فقط.

إن بإمكان رجال الأعمال في الخليج العربي - على كثرتهم - أن يؤدوا رسالة سامية من خلال الثقافة، لا في منطقة الخليج العربي فحسب بل في الوطن العربي بأكمله، إذ إن هناك الكثير من المهام الثقافية المؤجلة تنتظر من يقدم على تحمل أعبائها والريادة في إنجازها. ولو أمكن أن يكون هناك تنسيق وتكامل بين رجال الأعمال الخليجيين لحققوا الكثير مما يأمل العرب أن يتحقق.

إن انحدار مستويات التعليم، وانتشار الأمية، وتراجع الاهتمام باللغة العربية، وضعف الإقبال على القراءة، ومحدودية حركة النشر وحركة الترجمة بالقياس إلى المستويات العالمية، وعدم الإقبال على القراءة، كل هذه سلبيات في المشهد الثقافي تنتظر من يقوم بعلاجها وإيجاد الحلول لها، وإذا كانت الأجهزة الحكومية غير قادرة على الوفاء بكل هذه المهام فإن بإمكان رجال الأعمال العرب والخليجيين بخاصة أن يرتادوا الكثير من هذه المجالات.

لقد حاولنا في مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري أن نؤدي واجبنا تجاه أمتنا في المجال الثقافي من خلال بعض المراكز المتخصصة، ومنها: مركز البابطين للترجمة في بيروت الذي أنجز ترجمة عدد من الكتب العلمية والفكرية من اللغات العالمية، ومركز البابطين لحوار الحضارات مع جامعة قرطبة بإسبانيا الذي أسهم في عقد عدد من اللقاءات للحوار الحضاري شاركت فيها نخبة من مفكري الشرق والغرب، ومركز البابطين لتحقيق المخطوطات الشعرية مع جامعة الإسكندرية الذي أعد مجموعة من الدواوين الشعرية التي مضى على عمرها أكثر من ألف سنة بعد تحقيقها بأسلوب علمي متقن، وقامت المؤسسة بإنشاء مكتبة البابطين المركزية للشعر العربي، وهي أول مكتبة متخصصة في الشعر في الوطن العربي، والهدف من إنشائها الحفاظ على التراث الشعري العربي، وخلق ساحة محفزة للإبداع، وميدان لالتقاء المبدعين من الشعراء والنقاد. كما نشرت المؤسسة عددا كبيرا من الإصدارات (أكثر من ثلاثمائة وخمسين إصدارا)، وعقدت العديد من الندوات الأدبية والدورات التدريبية في مجالات الشعر والأدب ونشر اللغة العربية بين الناطقين بغيرها (أكثر من أربعمائة وستين دورة تستمر كل واحدة منها أربعة أشهر)؛ فضلا عن إسهامها في مشروع التعريب اللغوي الواسع لجمهورية جزر القمر المتحدة، كل ذلك بهدف تعزيز الحراك الثقافي، وتقديم الدليل على ما تستطيع أن تفعله مؤسسات المجتمع المدني عندما تمتلك قوة الإرادة، ونبل الهدف.

إن على القطاع الخاص في دول الخليج العربي أن يقوم بدوره الاجتماعي، وهو الدور الذي يحول الثروة المادية إلى مجموعة من القيم المحركة لقوى المجتمع الراكدة، بدل أن تبقى قيمة مجردة لا أثر لها، وقيام مؤسسات المجتمع المدني بواجبها يدل على يقظة المجتمع وفاعليته وسعة مداركه، هذه اليقظة وسعة المدارك التي لا بد أن يكون لها تأثير كبير على القطاع الحكومي نفسه بحيث تدفعه إلى العمل، وتخلق نوعا من التنافس الإيجابي بين القطاعين.

وإذا كنا ما زلنا في بداية الشوط - إذ إن رجال الأعمال الذين انخرطوا في ميدان العمل الثقافي ما زالوا معدودين - فإن أملنا أن يعي الآخرون واجبهم تجاه وطنهم وتجاه أمتهم، وليعلموا أن إنفاق جزء من ثرواتهم في النفع العام هو ربح وليس خسارة، وأن الثروة تنمو بالإنفاق لا بتجميدها.

* رجل أعمال وأديب كويتي ورئيس مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري