السؤال الأول: هل يمكن أن يكون ما حدث في مصر نذيرا بنهاية الإسلام السياسي؟

لا ... وفات التحليلات المتعجلة أربعة نماذج أفضت إلى حصول العكس

TT

ينبغي التأكيد في البدء أنه من الصعب اتخاذ التطورات التي عرفتها مصر مؤخرا كمؤشر للحكم على تجربة الحركات الإسلامية بعد ربيع الثورات العربية، فالتحليلات المتعجلة التي سارعت إلى إعلان نهاية «الإسلام السياسي» في المنطقة العربية، لم تأخذ بعين الاعتبار أربعة نماذج شبيهة، كلها أفضت إلى عكس الخلاصات التي انتهت إليها هذه التحليلات. فانقلاب يوليو (تموز) 1952 في مصر الذي انتهى إلى استئصال الإخوان المسلمين، وانقلاب زين العابدين بن علي عام 1987 الذي سار تقريبا في الاتجاه نفسه، بالإضافة إلى الانقلاب على تجربة حكم أربكان في تركيا، وفوز جبهة الإنقاذ في الجزائر.. كل هذه التجارب الأربعة، لم تنه تجربة «الإسلام السياسي» كما كان يستشرف الكثير من الباحثين، بل بالعكس تماما، زادته قوة، وعاد مرة أخرى ليشكل أكبر قوة سياسية في المشهد السياسي في كثير من البلدان العربية.

وعلى الرغم من أن إمكانية تقييم الأوضاع في مصر واستشراف مآلاتها تعتبر أمرا صعبا لأن التفاعلات السياسية لا تزال قائمة، وموازين القوى لم تكتمل معالمها الكلية بعد بسبب الانزياحات السريعة التي تقع داخل مكونات المجتمع المصري، فإن القراءة الأولية لواقع وحصيلة أداء الحركات الإسلامية في الحكم في المنطقة العربية، تشير إلى وجود محددات أساسية حاكمة لمسار التجربة:

1 - المحدد الأول: ويرتبط باختلاف التجارب الحركية في المنطقة العربية، ذلك الاختلاف الذي يمليه من جهة الاختلاف في طبيعة الحقل السياسي وطبيعة الفاعلين السياسيين المشكّلين له، إذ يفترق النموذج المغربي الذي يدبر فيه الإسلاميون العمل الحكومي في ظل نظام ملكي يحتفظ فيه الملك بصلاحيات واسعة طبقا للنص الدستوري، عن النموذج التونسي الذي يحكمه تعاقد ثلاث قوى سياسية مختلفة المرجعية الفكرية والسياسية. ويختلف النموذج المصري عن هذين النموذجين من حيث موقع الإسلاميين في الحكم، ووزن المؤسسة العسكرية داخل الحقل السياسي، بالإضافة إلى الاختلاف في الجغرافيا السياسية التي تعطي حضورا وتأثيرا أقوى للفاعل الدولي في القرار الوطني. كما يُمليه، من جهة ثانية، اختلاف المدرسة الفكرية التي تنتمي إليها كل حركة على حدة، ونوع المرجعية الحركية التي تنهل منها، لا سيما فيما يخص علاقة الدعوي والسياسي وأثر ذلك على مخرجات العقل السياسي. إذ اختارت التجربة المغربية صيغة التمايز بين الدعوي والسياسي، واحتفظت حركة النهضة بخيار الدمج التام بين المؤسستين الدعوية والسياسية، بينما يشكل حزب الحرية والعدالة المصري مجرد ذراع سياسي لجماعة «الإخوان» المصرية.

2 - المحدد الثاني: يرتبط بالخيارات التي لجأت إليها الحركة الإسلامية في جوابها عن أسئلة ما بعد «الربيع العربي»، وخاصة ما يتعلق بشكل التعاطي مع الدولة ببنياتها ومؤسساتها وهياكلها. إذ في الوقت الذي رفعت فيه تجربة العدالة والتنمية المغربية شعار «عفا الله عما سلف» كمنطلق لتجربة التحول السياسي الثانية، وتبنّت معادلة الإصلاح في إطار الاستقرار من غير مساس بالمؤسسات ووظائفها ترنّحت تجربة حركة النهضة طويلا في تبنيها لعناوين الثورة ممثلة في عنوان العزل السياسي وتطهير مؤسسات الدولة التونسية من «الفلول»، إلى أن اضطرت في الأخير إلى تقديم تنازلات في التعديل الحكومي الأخير منعطفة قليلا إلى نفس أسلوب حزب العدالة والتنمية في المغرب. هذا في الوقت الذي حكم فيه التجربة «الإخوانية» بمصر تردد كبير بين الإقدام والإحجام في التعامل مع مؤسسات الدولة يشهد له نوع التعاطي مع مؤسسة القضاء، لينتهي بها الأمر في الأخير إلى تأليب الكثير من مؤسّسات الدولة ضدها.

3 - المحدّد الثالث: يرتبط بشكل التعامل مع النخب السياسية، إذ في الوقت الذي حصّنت فيه حركة النهضة التونسية تجربة التحوّل السياسي بتعاقدها السياسي مع ثلاثة مكوّنات سياسية مختلفة المرجعيات الفكرية والسياسية، وفي الوقت الذي تحالف فيه حزب العدالة والتنمية المغربي مع أفرقاء سياسيين بعضهم ينتمي إلى قوى اليسار، اضطرت التجربة «الإخوانية» في مصر إلى عقد تحالفاتها من داخل التيار الإسلامي فقط، وهو ما جعلها في عزلة عن بقية النخب السياسية العلمانية والليبرالية.

4 - المحدّد الرابع: يرتبط بتقدير حجم الفاعل الدولي وحجم الرهانات والتناقضات التي تحكم الموقف الدولي. إذ على الرغم من كون الحركات الثلاث اتجهت إلى إنتاج خطاب الطمأنة، وسلك بعضها مسلك تحصين المصالح الأجنبية «المكتسبة»، فإن التجربة «الإخوانية»، على الخصوص، لم تستوعب متطلبات الجغرافيا السياسية وما تمليه من بناء تعاقدات سياسية وطنية تتجاوز السقف الإسلامي وتعظّم العرض السياسي لتنجح في إشراك قوى سياسية أخرى يقلل وجودها من حجم الاستهداف الخارجي للتجربة.

5 - المحدد الخامس: يرتبط بالخطاب السياسي ونوع الممارسة السياسية التي أنتجتها الحركة الإسلامية، فعلى الرغم من أن التجارب الثلاث اتجهت كلها متجه التخفيف من البعد الهويّاتي والقيَمي في الخطاب والممارسة السياسية، وفي التوجه إلى السياسات العمومية بدل ممارسة السياسة بمنطق الدعوة، وفي اعتماد البراغماتية بديلا عن الخطاب العقائدي، إلا أن التلازم بين الدعوي والسياسي لم يسمح لتجربة «الإخوان» أن تمضي بعيدا في هذا الاتجاه، ما جعل الفاعل السياسي المختلف معها آيديولوجيا، والفاعل الدولي لا يثقان في إمكانية تشجيع ودعم تجربة ديمقراطية يقودها الإسلاميون.

هذه المحدّدات الخمسة، تجعل مستقبل الإسلاميين في التجارب الثلاثة، تنتظمه ثلاثة سيناريوهات:

1 - السيناريو الأول: سيناريو ترسيخ المنهج الإصلاحي التراكمي على شاكلة التجربة التركية، وهو الذي يمكن أن نرشح له تجربة كل من العدالة والتنمية وحركة النهضة في حالة الاستمرار في تبني منطق الشراكة في العمل السياسي، ومنطق الإصلاح التراكمي في التعامل مع مؤسسات الدولة وهيئاتها.

2 - السيناريو الثاني: سيناريو تدشين المراجعات داخل الحركات الإسلامية، لا سيما داخل التجربة «الإخوانية»، بل حتى من داخل حركة النهضة إذا ما لم تجسّر القيادة التاريخية الفجوة بينها وبين القيادات التدبيرية، وفي هذه الحالة، يمكن أن تعرف هذه الحركات نفس مصير انبثاق حزب العدالة والتنمية التركي من رحم حزب الرفاه، بقيادة تدبيرية جديدة، وبأسلوب سياسي جديد.

3 - السيناريو الثالث: وهو المعاكس تماما للثاني، وذلك في حال فشل خيار إسقاط الإسلاميين في مصر، والتفاف أوسع القوى السياسية والمدنية على التحالف الوطني للدفاع عن الشرعية، ونجاح المبادرات السياسية في العودة للشرعية الدستورية والديمقراطية ولو بشكل جزئي، وبالتالي قد تعرف التجربة «الإخوانية» أحسن أحوالها، إذ ستعمل على تسويق نموذجها الثوري في المنطقة العربية، وتُحدِث نموذجا منافسا للنموذج التركي في مقاومة ممانعي تجربتها ممن اعتادت تسميتهم بمكونات الدولة العميقة.

والتقدير في المرحلة المقبلة، أن نموذج الإصلاح التراكمي بمفرداته ومشمولاته المفصلة في المحددات الخمس، رغم بطء آثاره وحجم التحديات المطروحة عليه، سيكون المرشح الأكبر للنجاح في الوطن العربي، وسيكون الدافع في المستقبل لتعرف حركة «الإخوان» مراجعات عميقة في خطابها وسلوكها السياسي لجهة إعادة تركيب العلاقة بين الدعوي والسياسي من جديد، وبناء تجربتها السياسية القائمة وفق منظور جديد يجيب عن كل التحديات الخمسة التي عجزت عن أن تقدم بشأنها أجوبة موفقة. هذا يعني في المحصلة أن تجربة الإسلام السياسي لن تعرف فشلا ولا تراجعا، بل تحولات ومراجعات ستعينها في إعادة تحسين تموقعها من جديد، لا سيما أنها ستبقى محتفظة بقاعدة واسعة من الشرائح الشعبية الملتفة على مرجعيتها أو على قياداتها أو المتضامنة مع مظلوميتها.

* باحث مغربي متخصّص في الحركات الإسلامية، له كتاب «الإسلاميون والربيع العربي»