وهل من الممكن النظر إلى الموقفين الفرنسي والبريطاني بمعزل عن السياسة الأميركية المسايرة للروس والصينيين؟

نعم... فكرة الحلف الأميركي الأوروبي المتماسك وهم

TT

من المفيد تبديد الفكرة السائدة حول أن التحالف الغربي، وقوامه الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، حلف متماسك، أو كأن أهدافه واحدة وهو خاضع لقيادة الولايات المتحدة.

إنها فكرة خاطئة والتاريخ ينقضها، والشواهد على ذلك عديدة، بدءا من «أزمة السويس» عام 1956، حين كان الفرنسيون والبريطانيون في جهة والأميركيون في جهة ثانية. وفي مرحلة الستينات، وجه الجنرال شارل ديغول انتقادات لاذعة للإسرائيليين، بينما كان الفريقان الآخران (واشنطن ولندن) متحالفين معها. كذلك كان الموقف الفرنسي متحفظا عن اجتياح العراق. وعدا عن أن التاريخ يبدد قوام «نظرية المؤامرة»، فلا بد من التأكيد على أن لكل فريق خصوصيته وأهدافه ومصالحه. فلفرنسا وبريطانيا تاريخ استعماري في المنطقة، وبالتالي لهما أهداف تاريخية واستراتيجية خاصة بهما، وحري بالذكر أن لبنان في مرحلة استقلاله استفاد من الصراع الفرنسي البريطاني، وربما لم ينل استقلاله لولا هذا الصراع. يتفق كل من الأميركيين والفرنسيين والبريطانيين على أهداف استراتيجية أبرزها اثنان:

- الإسلام السياسي المتجذر في أوروبا، والذي عززت أحداث 11 سبتمبر (أيلول) فرضية مواجهته للحفاظ على استقرار مجتمعاتهم.

- ضمان تدفق النفط واستقرار سعره ضمن الحدود التي يقبل بها اقتصاد الدول الثلاث.

عمليا أخرِج الفرنسيون إلى حد كبير من العراق ومن السوق النفطية في المنطقة، ولذا فهم يحاولون اليوم الحفاظ على آخر بقعة نفوذ لهم في الشرق الأوسط ألا وهي المشرق العربي. وفرنسا وبريطانيا على تنافس كبير اليوم مع إيران وتركيا وروسيا. فمنطقة «المشرق العربي» - بما يعني سوريا ولبنان - محسوبة تاريخيا على الفرنسيين، لكن الدور الفرنسي فيها تراجع لصالح الدور الروسي، ثم تم إقحام الدور الإيراني منذ الثورة الخمينية في هذه البقعة المحسوبة على الانتداب الفرنسي السابق. لكن قدرات الحرب تغيّرت اليوم. ولا بد من التوقف عند حقيقة جوهرية في العلاقة التي تحكم بين الولايات المتحدة من جهة وبريطانيا وفرنسا من جهة ثانية.

لا أحد من الدول الغربية لديه قدرات عسكرية تمكنه من خوض حرب أو تصديرها إلا الولايات المتحدة، في حين تعاني أوروبا من الانقسام الذي استوردته تاريخيا في ما بين مكوناتها، والمثال على ذلك إدراج الاتحاد الأوروبي جناح حزب الله العسكري على لائحة الإرهاب، والتناقض الذي تبع هذا القرار لناحية التمييز بين حزب الله اللبناني وحزب الله الإيراني. هذا التناقض يعكس جليا حالة انعدام التوافق داخل البيت الأوروبي الواحد. والمثال الثاني هو الحرب التي شهدتها يوغوسلافيا، التي لم يتمكن الأوروبيون من وقفها بسبب خلافاتهم وتصارع النفوذ وانعدام القوة العسكرية الأوروبية القادرة على الحسم، وكان الحل باللجوء إلى المنظومة الأميركية القادرة على الحسم عسكريا.. ومن ثم إيجاد التسوية.

بعد تلك الفترة تغيرت الأيام، واختلفت عقلية إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما عن سلفه جورج بوش الابن. إذ اقترح أوباما إدارة متعددة الأطراف للشؤون الدولية، انطلاقا من أن الأميركيين ليسوا قادرين وحدهم على تحمل أعباء الأمن المتكاثرة. وبالعودة إلى حرب ليبيا، صحيح أن الحلفاء الثلاثة، أي بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، تدخلوا لكنهم لم يتمكنوا من خوض المعركة لولا المنظومة الأميركية العسكرية. إذ عند الوصول إلى الحسم كان لا بد من العودة والركون إلى القوة العسكرية الأقوى. حتى إسرائيل اليوم تحاول جر واشنطن لحسم الملف النووي الإيراني، انطلاقا من حاجتها إلى المنظومة العسكرية الأميركية. في ظل هذه المعادلة، لدى الولايات المتحدة مصالحها وخططها، فهي تتصارع مع روسيا، لكن يمكن أن تفاوضها وتدخل في أكثر من مساومة معها. ويمكن كذلك أن تدخل مع شراكة اقتصادية مع الصين، فيما الأخيرة تعتمد أساليب تدخل مختلفة بالركون إلى قدراتها المالية والاقتصادية، إذ ليس بإمكانها حتى اليوم منافسة الولايات المتحدة بمنظومتها العسكرية حتى اليوم. وأعتقد أن التدخل لحسم أزمة سوريا خاضع اليوم لعملية تفاوض وشد حبال ومقايضات هنا وهناك. ولو كانت لفرنسا أو بريطانيا قدرات عسكرية تمكنهما من أن تؤسسا لنفوذ خارج المنظومة العسكرية الأميركية لما تأخرتا عن ذلك، لكن ليست لديهما القدرات الكافية. أما الأميركيون فقد رفعوا شعارات باتوا اليوم أسراها. إذ تعهد أوباما بأنه سينسحب من حروب كلفت بلاده كثيرا، لكنه ترك الشرق الأوسط في مرحلة من الفوضى، وأصدق تعبير عنها اليوم هو الحرب الأهلية في مصر وفي سوريا، إضافة إلى ما تركه خلفه في العراق.

أراد الأميركيون في البدء الحسم في سوريا انطلاقا من الرغبة في ضرب عصفورين بحجر واحد.. عبر انحسار النفوذين الإيراني والروسي معا. فأي تراجع لنفوذ إيران في سوريا ولبنان، وهم في خضم صراع نووي معها، سيزيد من قدراتهم. كما أن أي تراجع في نفوذ روسيا التي تسللت خلسة إلى سوريا مع نظام البعث، سترادفه زيادة في النفوذ الأميركي.

لقد أراد الأميركيون دعم الثورة السورية لأهداف جيواستراتيجية، لكن الموقف تبدل مع خطف الصراع من قبل الإسلاميين الراديكاليين، بسبب غياب الريادة أو الإدارة الأميركية، وهو ما سيحسمه التاريخ لاحقا. بمعنى آخر سيحسم التاريخ ما إذا كان التراجع في الموقف الأميركي هدفه ترك القوتين المتصارعتين في سوريا تنهك إحداهما الأخرى، أم سببه غياب القيادة لدى أوباما وتردده.

قد لا يحبذ الأميركيون إرسال العسكر إلى سوريا في ظل معارضة الرأي العام ذلك، وما دام هناك من يقوم بهذه المهمة، بمعنى أن النظام والمعارضة يتقاتلان وليس عليهم إلا التسليح فلماذا سيستعجلون؟ حتى لو لم يتدخل الأميركيون فالنظام ينهك نفسه، والقوى الإسلامية تُنهك، أما إيقاع اللعبة فلا يخرج عن الحدود المرسومة له ما دامت إسرائيل تتدخل لتضرب أهدافا محددة تتخطى حدود سوريا. وما ينطبق على الولايات المتحدة ينطبق على الأوروبيين، الذين لا يريدون تكبد أي فاتورة عسكرية أو مالية قد يحاسبون عليها انتخابيا. والنتيجة: لا تورط في الحرب في سوريا، والشعب السوري يدفع الثمن من رزقه ودمه.

* باحث لبناني وأستاذ جامعي في العلاقات الدولية