هل كانت المواجهة مع إسرائيل العامل الرئيس في تعطيل التنمية والتقدم في العالم العربي؟

لا ... ديناميكيات المشكلة أكثر تعقيدا ومنها رفض تقبل الآخرين

TT

لا.. المواجهة مع إسرائيل ليست السبب الرئيس لبطء التنمية وتراجع العافية في العالم العربي، بل أرى النزاع العربي - الإسرائيلي مظهرا لديناميكيات أكبر وأكثر تعقيدا، ولعل هذه الديناميكيات، التي هي أخطر على العرب مما هي على إسرائيل، هي العامل المسؤول عن نقص التنمية المادية والإنسانية في المنطقة الناطقة بالعربية في الشرق الأوسط.

لقد أثار المعلقون وخبراء الشرق الأوسط وصانعو السياسة السابقون في الولايات المتحدة، خلال الفترة الأخيرة، لأول مرة في ذاكراتهم، وربما لأول مرة منذ تأسيس دول إسرائيل، مسألة أن النزاع العربي - الإسرائيلي لا يهيمن على التفكير الأميركي إزاء تلك المنطقة من العالم.

طبعا، كان للولايات المتحدة وما زال مصالح متعددة في الشرق الأوسط، على رأسها التدفق الحر لإنتاج الخليج من مصادر الطاقة، ولكن مع المحافظة على هذه المصالح، ظل للنزاع العربي - الإسرائيلي موقع مركزي في الخطاب السياسي الأميركي. وكمثال على ذلك، حتى بعد طرد التحالف الذي قادته الولايات المتحدة قوات صدام حسين من الكويت عام 1991، ظلت إدارة الرئيس جورج بوش الأب مهتمة بمسار السلام، ورأى جيمس بيكر وزير الخارجية يومذاك، أن السلام العربي - الإسرائيلي حصيلة طبيعية لعملية «عاصفة الصحراء»، وبالتالي عقدت «مؤتمر مدريد» في مسعى يتوج بصفقة بين إسرائيل والعرب.

ثم هناك مثال آخر بعد أكثر من عقد من الزمن، عندما غزا جورج بوش الابن العراق، أعلن المسؤولون الأميركيون أن الطريق إلى القدس يمر في بغداد، وبهذا الكلام كانوا يقصدون أن قيام حكومة ديمقراطية في قلب الشرق الأوسط ستفتح باقي المنطقة أمام الديمقراطية. وكان صانعو السياسة الأميركية مؤمنين بأنه ما إن يتحقق لشعوب الدول العربية اختيار من يحكمهم، يصبح محتوما أن الناخب العربي سيفضل التجارة على الحرب، ويختار الثراء والفرص بدلا من الاقتصادات الميتة.

ولكن الأميركيين كانوا على خطأ، لأنهم لم يفهموا، كما شرح أحد كبار الكتاب والمحللين السياسيين العرب، أن الأزمة مع العراق لا تُختصر بصدام حسين. لقد كانت الأزمة في العراق أزمة مجتمعه المكسور والمقسم، الذي ما كان صدام ونظام حكمه السيئ سوى انعكاس له.

واليوم، بعد عشر سنوات من غزو القوات الأميركية العراق، نلاحظ أن لدى الأميركيين، كما لدى العرب، صورا مختلفة لحقيقة مشكلات المنطقة. النزاع العربي - الإسرائيلي ما عاد الموضوع الأساسي في الخطاب الأميركي إزاء الشرق الأوسط، لأن الغلبة الآن باتت للصراع الطائفي.

والواقع أنه بات متعذرا التعبير بما فيه الكفاية عن مدى إسهام تنامي التأزم الطائفي في نقل التركيز الأميركي. ولقد دفع تفاقم المواجهات القاتلة بين السنة والشيعة، الممتدة من شواطئ بيروت إلى وسط بغداد، خبراء الشرق الأوسط إلى إعادة تقييم معطياتهم وفرضياتهم المتصلة بفهمهم للمنطقة. وبعدما كان أصحاب القرار السياسي في واشنطن يفهمون عموم ما يجري في الشرق الأوسط، عبر تأثر أنحاء مختلفة من الشرق الأوسط، بالنزاع العربي - الإسرائيلي، أو تأثيرها فيه، ها هم اليوم لا يتكلمون إلا في إطار الانقسامات الطائفية والمذهبية.

ولدى النظر إلى أنهار الدم التي تسيل في لبنان والعراق، بل وبالأخص في سوريا، والأخذ في الاعتبار طبيعة توازن القوى الاستراتيجي، بين إيران الثورية وحلفائها الشيعة بمواجهة الأنظمة السنية التي تدعمها الولايات المتحدة، التي هي منزرعة في المجابهة الطائفية، لا يعود مستغربا أن يراها الأميركيون أو العرب، أو حتى الإسرائيليون، على هذا النحو. غير أنني هنا لا أوافق تماما على هذا التصور.

الطائفية، أو الصراع المزمن بين السنة والشيعة، مثلها مثل المواجهة العربية لإسرائيل، لا تجسد حصرا في ذاتها حقيقة الشرق الأوسط. ذلك أن ثمة منظورين مختلفين للقضية ذاتها. ولقد كان الرئيس السوري بشار الأسد هو من كشف اللعبة، عندما وصف المعارضة السورية بأنها جماعة من «الإرهابيين الأجانب»، مع أنها مكونة من مواطنين سوريين كانوا يحتجون بطريقة سلمية لأشهر عدة، قبل أن يضطروا اضطرارا لحمل السلاح دفاعا عن النفس.

إن حرب الإفناء التي شنها الأسد على المعارضة ذات الغالبية السنية هي من نوعية الحرب نفسها التي كان يخطط، كغيره من القادة العرب من جمال عبد الناصر إلى حسن نصر الله، لخوضها ضد إسرائيل، واليهود، منذ أكثر من 60 سنة. لقد صاح مسؤولون عرب على امتداد ستة عقود: «سنرمي اليهود في البحر»، وندمرهم.

اليوم نسمع أصداء مماثلة في صيحات القتال التي يطلقها نظام الأسد في حربه على السنة. إذا كان هؤلاء «إرهابيين أجانب» لنتذكر كم مرة وصفت فيها إسرائيل بأنها تصدير استعماري «أجنبي» إلى المنطقة. وبالتالي، فإن الطائفية اليوم، على غرار المواجهة مع إسرائيل، مجرد وجه من الديناميكيات الإقليمية التي أخرت وعطلت كل أشكال التنمية الممكنة في الشرق الأوسط، أكانت تنمية اقتصادية، تصنيعية، سياسية، اجتماعية، وفي المقدمة التنمية الإنسانية.

التنمية مستحيلة في حال تعذر قبول الآخرين والتعايش معهم، سواء كانوا من السنة أو الشيعة أو العلويين أو الدروز أو المسيحيين، أو يهود إسرائيل.

* كاتب ومعلق سياسي أميركي، كبير محرري «ويكلي كوارترلي»