هل تتوقع أن تظل سوريا ما بعد الأسد كيانا موحدا في أعقاب الضربة الأميركية الموعودة؟

نعم... والثورة ستكون مقدمة توحيدية على مستوى المنطقة

TT

الثورات عادة تقوم لأسباب مباشرة وصغيرة، لكنها تحقق غايات ومتغيرات بعيدة وعميقة، وثورة الحرية والكرامة لن تسقط فقط النظام السياسي، بل ستطيح بكامل المستقر في الخريطة السياسية والاقتصادية، وستعيد بناء الثقافات.. وبعكس ما نراه اليوم من صراع يوحي بتفتت الدول، وخاصة سوريا، فإن نظرة أعمق تبين أنه مقدمة لتغيير شامل في خريطة المنطقة ينتهي بتوحيدها بعد اختبار ومسار عسير سيطيح بما فرض عليها من تقسيم مصطنع، كشفه ملايين اللاجئين الذين لجأوا لدول الجوار، والذين فهموا أن هذه الحدود لا قيمة ولا معنى لها بعد الآن.

مشروع التقسيم كمنهج وهدف قائم في لبنان ثم العراق، وجار في سوريا، التي استطاع النظام بالتعاون مع إيران تحويل ثورتها لحرب طائفية «سنية - شيعية»، ودفع مكونات أخرى للتخوف من الضياع والاضطهاد. والواضح أن دولا معينة تسعى لتفتيت سوريا... وكان سبق للاستعمار الفرنسي أن قسم سوريا لأربع دول، لكن ذلك لم يعمر طويلا. إن الجغرافيا السورية غير متماثلة.. داخل، ساحل، جبل، صحراء.. كل قسم منها يحتاج لمكملاته الموجودة في القسم الآخر. كما تغيب الحدود الواضحة بين المكونات، أي حدود التقسيم المحتمل، فالعلويون النصيريون مثلا يتركزون في جبال الساحل، لكنهم لا يشكلون وحدهم أغلبية واضحة فيه، وكذا الكرد في الشمال، وأقل منهم بكثير المسيحيون، وإن ظهر استثناء عند الدروز في جبل العرب، لكن الحجم يعيق بشدة استقلالهم. واللغة العربية منتشرة في كل المناطق. ولا يوجد تطابق في نوع التقسيم المقترح: فالقومي غير الديني، والطائفي لا يتماشى مع القومي، وهكذا. ناهيك عن أن كل لون منقسم ومشرذم، فالسنة تركمان وكرد وعرب وشركس، والمسيحيون عرب وأرمن وآشوريون سريان، ولهم كنائس متنوعة، والعلويون منقسمون لقبائل ويتمايز فيهم المرشديون وعنهم الإسماعيليون، ويختلفون مع الشيعة الاثني عشرية.

عبر التاريخ كان هناك تشابك بين سوريا وجوارها، وغالبا ما كانت محتلة من جار أكبر، ولم تشكل لا هي ولا أي قسم منها دولة مستقرة متمايزة لفترة طويلة؛ فهي شريط ساحلي وصحراء، وهي معبر بين القارات الثلاث وملتقى للحضارات، وبالكاد تتمايز هويتها القائمة على التنوع والتعدد يشوبها صراعات تخبو وترتفع، لكن السمة العربية الإسلامية السنية المعتدلة حفظت صيغة العيش المشترك، واستمرت الضامن الحقيقي للتعايش طيلة 14 قرنا، رغم التوترات والحروب والاحتلالات.

وسوريا الحديثة التي أسست على يد الاستعمار بعد تفكيك الإمبراطورية العثمانية، استطاعت تشكيل هوية من نوع ما للقاطنين فيها، وترابط اقتصادي من الصعب تفكيكه، وخلطت المكونات السكانية حتى صارت نموذجا يمكن تعميمه ليكون أساس الوحدة في الشرق الأوسط. والعصر الحديث يسير نحو فتح الحدود، وتشكيل التحالفات الإقليمية والدول الاتحادية المبنية على المصالح، أما السير عكس التاريخ نحو الدولة القومية، أو نحو الدولة الدينية، أو أدنى من ذلك نحو الدولة الطائفية، فسيصطدم بالمصالح التي تتخطى الحدود وتقفز فوق الحواجز.

لقد خلقت ظروف الحرب واقعا عسكريا أمنيا شاذا، إنما لو عاد السلم فستزول مبررات الانقسام «الأمنية القتالية الطارئة التي تعززها المجازر المروعة غير المسبوقة»، لتنهض من جديد المصالح المحطمة للحدود والحواجز. ثم إن فكرة التقسيم لم تكن مطروحة بتاتا قبل الحرب، إلا في الوسط الكردي إلى حد ما وبشكل ملطف، بعكس فكرة الوحدة والتعاون وفتح الحدود، مع لبنان والأردن والعراق وتركيا والخليج، والشراكات العربية والإسلامية والأوروبية. أيضا الشعب السوري يتصف بولعه بالتجارة.. المعادية بطبعها للحدود والتقسيم وللحروب. أي أن حالة التقسيم مرتبطة كثيرا بحالة الحرب، وتوقف الحرب سيبطل جاذبية هذه الفكرة، ويضعها مباشرة في مواجهة مصلحة قطاعات كبيرة تهتم بالإنتاج والمصالح التي تحتاج للوحدة.

حاليا هناك من يسعى لإطالة أمد الصراع وتثبيت الجبهات التقسيمية، ويبطل كل حسم، محاولا فرض حالة من الانقسام لفترة طويلة من الزمن.. قد تخلق واقعا تقسيميا مستداما من نوع ما، لكن عدم وقف إطلاق النار أو تسريع التطبيع كفيل بخلط الأوراق وتحطيم الحدود من جديد.

حتى الدولة الدينية التي تحاول القيام في الرقة وحولها، لها «مشروع توحيدي» مع العراق وكل الشام بما فيه فلسطين، والدويلة النصيرية المفترضة لن تجد نفسها من دون «الهلال الشيعي» ومن دون تحالف أقلوي، ومن دون امتداد نحو لبنان والعراق، أو احتلال روسي. أما الكرد فهم لا يسعون للانفصال إلا لتشكيل حلمهم القومي الموحد. هذا يعني أن المنطقة تتجه فعلا نحو التوحد والاندماج لا التقسيم، ليبقى البحث عن هوية هذا التوحد. لكن ذلك يحتاج لتجاوز حالة الصراع إلى حالة التوافق والتشارك، وهذا يتطلب العدالة والانفتاح العقلي والإصلاح الديني، والديمقراطية التي هي فعلا تجعل المختلف يتعايش سلميا. ولذا فالدولة الاتحادية الكبيرة في المنطقة هي الوعاء الذي تحل به القضية العربية والكردية والفلسطينية وغيرها..

وأخيرا، لا بد من شعار ترفعه المعارضة بوضوح، وتقاتل الأغلبية من أجله: التقسيم يعني الحرب المستمرة وسيادة حالة ما من دولة العصابة الرهينة، أما الوحدة ضمن الدولة المدنية التي تحترم حقوق الإنسان فهي الشكل الوحيد للسلم والحضارة.

* عضو الهيئة السياسية في الائتلاف الوطني السوري