هل تتوقع أن تظل سوريا ما بعد الأسد كيانا موحدا في أعقاب الضربة الأميركية الموعودة؟

لا... أخشى أن تكون سوريا على طريق الجمر

TT

صورة الغد في سوريا، بعد الذي حدث ولا يزال يحدث فيها، لا تبدو زاهية ولا تبشر بمستقبل قريب واعد للسوريين كشعب واحد ونسيج وطني متماسك. كل الطرق التي عبدها الجحيم الكبير بالزفت الأسود، والتي تعمق خطوطها يوما بعد يوم في سوريا الحالية، تقود إلى نهايات مأساوية.

عندما يقع الشقاق والخلاف في دول متعددة الانتماء الثقافي والديني والعرقي مثل سوريا، لا بد أن ينتهي بتسوية تضمن التوازن بين المكونات الأساسية للمجتمع على أساس التعددية والمشاركة في صنع القرار والديمقراطية، وإعطاء كل ذي حق حقه، بما يرفع عن الأقليات هواجسها، وعن الأكثرية غبن تهميشها بتحالف الأقليات ضدها.

هكذا تسوية أرسيت خطوطها العريضة في «جنيف 1» بين الأميركي الراعي الكبير للمعارضة والروسي راعي النظام. لكن الطريق نحو هذا الحل يبدو صعبا جدا في المدى المنظور، لا.. بل يبدو مستحيلا. فلا الراعيان الكبيران قادران على الاتفاق على التفاصيل الضرورية لإطلاق مسار الحل السلمي، بفعل خلافاتهما الكبيرة والتباعد بينهما الذي يزداد اتساعا بفعل المستجدات، وآخرها استخدام السلاح الكيميائي وما نتج عنه من إسقاط لـ«الخطوط الحمر» الأميركية، حيث صارت واشنطن قاب قوسين من التدخل العسكري المباشر في نار الأزمة.. ولا دول الإقليم قادرة على لجم التدهور بعدما صارت سوريا بالنسبة إليهم معركة كسر عظم لا يمكن لأي منهم تحمل خسائر هزيمتها، إذ لا الإيراني قادر على التراجع، ومثله حزب الله، ولا التركي قادر على تقديم التنازلات، مثله في ذلك مثل دول الخليج والأردن. وهنا لا يمكن التقليل من الدور الإقليمي في الحل، ذلك أن للجغرافيا وزنا في المعادلات يماثل في بعض جوانبه وزن السياسة ووزن إرادات القوى العظمى.

أكثر من ذلك، فإن قاموس المفردات السياسية للاعبين المحليين أيضا لا يتضمن حتى الآن اعترافا بوجود عبارتي «تسوية» أو «حل سياسي». النظام لا يعترف بوجود معارضة سياسية في بلاده، ويصر على أن خصومه رهط من «الإرهابيين» تحركهم «مؤامرة خارجية»... وتاليا لا يقبل بأي شكل مبدأ مفاوضاتهم بذريعة أن دواء «الإرهاب» هو الكي والاستئصال. ولذا يواصل «كي» الأخضر واليابس حارقا المدن والآمنين والأبرياء. وفي المقابل، فإن المعارضة التي جعلها خواء السياسة السورية في عهود التوتاليتاريات المتعاقبة، وتكالب الخارج على الداخل، معارضات متباينة المواقف والبرامج والأهداف... لا يجمع بين بعضها وبعض سوى هم إسقاط النظام ولا شيء غيره. وعليه، كانت هي أيضا أعجز عن بناء بديل مقنع للنظام وفرض شروط جديدة لتسوية مقبولة للجميع.

وبين نظام متحجر يقدس جبروت الحلول الاستئصالية والإلغائية والإقصائية، وبين معارضات هائمة على وجهها سقطت أكثر من مرة في فخ النظام وانقادت بردود فعلها غير المدروسة إلى العصب المذهبي والانحلال الأخلاقي.. طارت التسوية وصارت في خبر كان أو ربما.

إمكانات الحل السياسي في سوريا حتى هذه اللحظة مستحيلة. وتأتي الحرب الأميركية المفترضة لتزيد استحالته وليس لتقريبه. وفي المقابل، يبدو الحسم الميداني مستحيلا أيضا، فليس النظام قادرا على استعادة السيطرة على كل سوريا حتى ولو استعاد عسكريا كل المدن بتدميرها؛ لأن الريف سيظل خارج سيطرته مهما فعل. والمعارضة بدورها عاجزة عن إسقاط النظام بالضربة القاضية بفعل الدعم اللامحدود له سياسيا وعسكريا وماديا من حلفاء أقوياء باتوا يعتبرون المعركة معركتهم، لا سيما منهم إيران وروسيا.

أكثر من ذلك فإن التصريحات الحربية الغربية لا تشير إلى نية إسقاط النظام بالقوة بذريعة «عدم جهوزية البديل»، في حين تنظر ضمنا وبارتياح إلى تحول سوريا، قلب بلاد الشام ومفتاح الصراع مع إسرائيل، دولة مفتتة ضعيفة.

إذن، ما الحل؟ هل التقسيم والتجزئة هما طريق الخلاص لسوريا؟

حتى هذه اللحظة لم تفصح أي دولة كبرى عن هكذا نية مبيتة. روسيا أعلنت صراحة رفضها «دولة الأقليات»، وواشنطن لم تشر أبدا إلى التجزئة. والعرب يريدون سوريا عربية متماسكة، وإيران تحبذ أن تظل سوريا موحدة تحت قبضة حليفها.

كذلك النظام السوري يرفض وجود شريك له يشاركه السلطة والسيادة على أي جزء من الأرض السورية، ولا يزال أركانه يحلمون عبثا باسترجاع الماضي. وفي المقابل، تعتقد غالبية المعارضات السورية، وتصر على أن المعارضة تمثل غالبية الشعب السوري، وأن لها اللاذقية وطرطوس وجبال العلويين والقامشلي، ولا تنفك تشن هجمات في قلب هذه المناطق تأكيدا لوحدة سوريا وتماسكها الجغرافي، وأنها لا تقبل بديلا عن سوريا كاملة.

لكن التمنيات شيء والواقع على الأرض شيء آخر. ويوما بعد يوم يتعزز الفرز ويتعمق الشرخ ويدمر النسيج الاجتماعي بفعل عمليات الفتك والاغتصاب الجماعي على أنواعه.

سوريا فعلا صارت «صومالا جديدا» تحكمه العصابات وتدير مناطقه والمدن المافيات.

الصراعات على الزعامة المحلية في كل شارع وفي كل دسكرة وزاروب، ويستوي في ذلك مناطق نفوذ النظام ومناطق نفوذ المعارضة. ولا غرابة أن نسمع بيانات الرقم واحد وإعلانات عن قيام «دويلات» و«جمهوريات» أو «إمارات» مستقلة مثل «حلب لاند» أو «درعاستان» أو جمهورية «كردستان الجنوبية المستقلة» أو إمارة «جبل الدروز».

سوريا الموحدة والمتماسكة معلقة في انتظار أعجوبة.. على الأرجح لن ترى النور في الأمد المنظور. إنها طريق الجمر.

* صحافي وسياسي لبناني