السؤال الثاني: هل يساعد التدخل الخارجي في تبديل المعطيات على الساحة السورية؟

لا... «الضربة» لسوريا شكل آخر من العجز

TT

أولا، هناك اتفاق على أن «الضربة» العسكرية لسوريا، لو وقعت، فستكون محدودة في الزمان والأهداف. والاعتبار الأول خلف ذلك هو أن الولايات المتحدة خصوصا، وهي القادرة عليها، لا تريد التورط في عمل يعيد إلى الأذهان مغامراتها المكلفة والفاشلة في أفغانستان والعراق، ولا تريد من جهة ثانية إفساح المزيد من المجال أمام المجموعات السورية المتشددة المقاتلة. هناك اعتبار فوق هذين المتداولين كثيرا، وهو خطر تصعيد المواجهة مع روسيا ومع إيران، مما يمكن أن يكون حسابه عسيرا والتوقعات بشأنه غير دقيقة. والسبب الأخير لا يرد كثيرا في المحاجات، لأن الوعي السائد ما زال يتحرك عند واقعة انهيار الاتحاد السوفياتي وحسم الحرب الباردة الماضية لصالح الأميركان، بينما هذه الحقبة من «نهاية التاريخ» كانت قصيرة، بل خاطفة. وقد وقعت التدخلات الأميركية في إطار تلك اللحظة التي انقضت. فيما تبرز اليوم تعددية قطبية جديدة، تقود روسيا على ما يبدو جناحها الشرس، أو العسكري. فهل يغامر أوباما بالوقوف أمام منزلقات من هذا النوع؟ وهل يقوى؟ وهل يمكنه ألا يحسب التداعيات التي قد تكون كارثية، وغير متوقعة، في منطقة شديدة القرب من إسرائيل ومن منابع النفط، وهي تداعيات يقف على رأسها انتشار فوضى يصعب على أي كان لمها، حتى لو أراد.

ثانيا، في دوافع الداعين إلى الضربة - ولو أمكن تدخل عسكري أكبر - أمر يصعب فهمه في السياسة. الغربيون، وعلى رأسهم الفرنسيون، تحدثوا أحيانا عن «التأديب»، بأبوية استعمارية جوفاء. وأما المحليون، فينقسمون إلى فئتين، واحدة تبيع أوهاما من قبيل أن وراء الضربة خطة استراتيجية متدحرجة، بينما نعلم جيدا أن السياسية الغربية الحالية تعتمد التلمس والقيادة يوما بيوم. والفئة الثانية تريد «الانتقام» من بشار الأسد حتى لو عرفت أن الضربة لا تنوي استهدافه، وفي هذا قصور يضع السياسة في موقع الثارات العشائرية. وهي هنا بلا طائل، فهي ليست خطة لإسقاط الأسد.

ثالثا، نحن إذن أمام معضلة حقيقية. هناك استعصاء مزدوج جديد يضاف إلى سابقه ويجعل الوضع يتعقد يوما بعد يوم وينذر بالأهوال. فقد كان يظهر جليا - إلا للمكابرين - أن النظام السوري غير قادر على القضاء على «العصابات الإجرامية» كما سمى الانتفاضة الشعبية منذ اللحظة الأولى، ناكرا الواقع، وعاملا في الوقت نفسه على تحوير ما يجري باتجاه العنف المسلح والطائفي. وكان يظهر في الآن نفسه أن الانتفاضة غير قادرة على إزاحة النظام أو إسقاط رأسه، لأن نواته الصلبة مغلقة، غير حساسة تجاه فعل الانتفاضة، وغير قابلة للمس، ومستعدة لأقصى عنف، ولأنه لا توجد أجسام وسيطة يمكنها التدخل بين رأس النظام والناس، كما كانت عليه الحال في مصر وتونس، أو بالنسبة للدور الخليجي في اليمن. يتضح هنا بقوة ما معنى أنه في الحالة السورية (وليس وحدها) تتطابق الدولة - والسلطة - والحاكم. هي واحد. والضربة اليوم من طينة الاستعصاء نفسه؛ فهي مشكلة لو حصلت، بسبب مخاطر تداعياتها المحتملة من جهة، ولأنها من جهة أخرى (ولا تناقض) تسعى لأن تكون «شكلية» بمعنى من المعاني لفرط ما تحتاط. ومشكلة أيضا لو لم تحصل بعد كل هذا الضجيج، لأن ذلك يعني انتصارا لبشار الأسد (ولو بفضل المظلة الروسية) سيجعله يستقوي أكثر ويغرق سوريا في مزيد من الدم، وأهلها في مزيد من اليأس من التغيير.

رابعا، وكل ذلك يجري بجلافة، ومن دون التبريرات «الأخلاقية» المعتادة حول الحق في «التدخل الإنساني». الكلام عن «التأديب» يلغي أصلا هذا البعد، ومعه الاعتبارات المبدئية والأخلاقية في القصة. صحيح أن الضربة تجري بسبب استخدام الأسلحة الكيميائية (وبانتظار الثبوت العلمي للمسؤوليات!)، ولكن المجازر في سوريا لم تنقطع، ومن حق ضحاياها الاعتراض على عدم الاكتراث بهم، وتخصيص من قضى بغاز السارين بكل هذا الضجيج! وهذا الأمر يثير مشكلة إضافية تتعلق بانحطاط المعايير السائدة، وبالحاجة للعودة إلى التفاوض بشأنها وإنتاج توافق عالمي جديد، شرعة تسمح بوجود مقاييس موضوعية يمكن الاعتداد بها وتمثل نقلة إلى الأمام للبشرية، وليس انتكاسا نحو الانفلات والعجز عن أي شيء كما هو حاصل.

في العقدين الماضيين، جرت ممارسة الكثير من الاستنساب والاعتباط. وهذا معطل، ويجعل من الممكن للحكام الدمويين أن يدعوا واعظيهم إلى «تنظيف عتبة بيتهم» قبلا. وهكذا يبدو أنه لا يمكن حماية البشرية جمعاء وفي كل مكان من أماكنها، من دون تطلب شرعة قيمية ومعيارية جديدة.

الضربة إذن، ومعها هذا كله، لا يمثلون حلا لمشكلة سوريا، ولو أن تعقيد أوضاعها هو ما يبرز بحدة الحاجة العليا لشرعة قيمية عالمية. بمعنى وجود أزمة عميقة والحاجة لتخطيها. أهو عزاء كاف للسوريين المكتوين بنيران متقاطعة، بانتظار تغير حالهم نحو الحرية.

* باحثة لبنانية في علم الاجتماع السياسي